علاء الفريجي
يتزايد عدد الدول الغربيّة التي تخفض التمويل لإعلامها العمومي الدولي، بينما تعمل الأنظمة والحكومات على تعزيز ترسانتها الإعلاميّة الموجّهة إلى الخارج. وقبل بضعة أشهر قرّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنهاء تمويل الوكالة الأميركية للإعلام الدولي التي تضمّ صوت أميركا وإذاعة أوروبا الحرّة وإذاعة آسيا الحرّة .
ووفق تقرير لهيئة الإذاعة السويسرية، يخوض الفريق القائم على خدمة صوت أميركا معركة قانونيّة لمنع تفكيكها، لكن إذا فشلت هذه المعركة فسيُحرم الملايين من مصدر إعلاميّ موثوق في البلدان التي يكون فيها الوصول إلى الأخبار محدودًا .
ويقول تريستان ماتيلارت، أستاذ الاتصال الدوليّ في جامعة باريس بانتيون-أساس، إنّه “خطأ فادح، من وجهة النظر الجيوسياسيّة، لأنّ الولايات المتّحدة بذلك تحرم نفسها من أداة مهمّة من أدوات التأثير، التي يمكن توظيفها في الدفاع عن حريّة التعبير.” ويشير الباحث إلى أنّ وسائل الإعلام هذه تلعب دورًا أساسيًّا في البلدان التي تسيطر فيها الأنظمة الاستبداديّة على مصادر المعلومات .
ولا تتعرّض الخدمات الإخباريّة الدوليّة للضغط في الولايات المتّحدة فقط، بل أيضًا في بقيّة الدول الغربيّة. ويقول كولين بورليزا، مدير معهد الإعلام والصحافة في جامعة ديلا سفيتزيرا الإيطاليّة، “قررت الكثير من الأنظمة الديمقراطيّة الليبراليّة، في السنوات الأخيرة، إعادة النظر في تمويل وسائل إعلامها العموميّة أو خفض تمويلها، لاسيّما تلك الموجهّة إلى الخارج .
فمثلًا، تعرّضت الخدمة الدوليّة لهيئة الإذاعة البريطانيّة “بي.بي.سي” في المملكة المتّحدة للعديد من عمليات تخفيض النفقات على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. وفي الآونة الأخيرة أعلنت عن إلغاء 130 وظيفة في إطار خطّة لخفض التكاليف تهدف إلى تقليص ميزانيّتها بنحو 6 ملايين جنيه إسترلينيّ (6.5 مليون فرنك سويسريّ). ويعلّق كولين بورليزا على ذلك قائلًا “تتعرّض خدمة بي.بي.سي وورلد لضغوط ماليّة هائلة، رغم دورها التاريخيّ، كحجر زاوية للقوّة الناعمة البريطانيّة .
وفي فرنسا شهدت الموارد المخصّصة للبثّ الإذاعيّ والتلفزيونيّ الخارجيّ في السنوات الأخيرة انخفاضًا فاق عدة ملايين من اليوروات. وإلى جانب فرنسا يذكر كولين بورليزا أنّ الإعلام العموميّ الدوليّ “واجه إجراءات تقشّفيّة في كلّ من فنلندا وهولندا وبلجيكا وسلوفينيا .
وتُعتبر دويتشه فيله الألمانية حالة خاصّة في العالم الغربيّ. فقد رصدت الحكومة الألمانيّة 15 مليون فرنك إضافية لخدمة البثّ الدوليّ في ميزانيّتها لعام 2025. ويوضّح كولين بورليزا أنّ “هذا استثناء وليس قاعدة، لأنّ الضغوط السياسيّة، في أماكن أخرى من العالم، تتزايد .
وفي المقابل تسير البلدان الاستبداديّة في الاتّجاه المعاكس. ويوضّح تريستان ماتيلارت أنّه “منذ أوائل الألفيّة الثانية، تعمل روسيا والصين ومعهما إيران على تعزيز أجهزة البث السمعيّ البصريّ لديها، لاسيَّما في أفريقيا وأميركا اللاتينيّة .
ويستشهد على وجه الخصوص بإنشاء قنوات دعائيّة روسيّة، مثل “روسيا اليوم” و”سبوتنيك”، وتأسيس الصين قنوات تلفزيونيّة دوليّة، بفضل استثمارات بعدّة مليارات من الفرنكات. ويقول “هناك تناقض صارخ بين المفاوضات الماليّة الصعبة، التي تواجهها وسائل الإعلام الدوليّة العموميّة في الولايات المتّحدة وأوروبّا الغربيّة، والتمويل الضخم الذي تتلقّاه وسائل الإعلام الدوليّة الحكوميّة الروسيّة والصينيّة .
وعن التوسّع في الانتشار الإعلاميّ الدوليّ لروسيا والصين، يؤكد كولن بورليزا أنّ هذا “أدّى إلى أشكال من الهيمنة الإعلاميّة؛ إذ لا تعمل وسائل الإعلام العموميّة الدوليّة بشكل مستقل، بل تسيطر عليها مصالح حكوميّة
ويرى تريستان ماتيلارت أنّ الصرامة الماليّة هي أكثر ما يُثقل كاهل الإعلام العموميّ الدوليّ في البلدان الغربيّة، منذ عدّة عقود. ويستشهد بما حدث في الولايات المتّحدة؛ فقد اضطرّت إذاعة صوت أميركا وإذاعة أوروبا الحرّة إلى تخفيض تكاليفهما منذ نهاية الحرب الباردة. ويستطرد الخبير في الاتّصالات الدوليّة قائلًا “نجد في المقابل أنّ صدمة هجمات 11 سبتمبر 2001 سمحت بتمويل وسائل إعلام جديدة، موجّهة إلى العالم العربي .
وإلى جانب القضايا الماليّة باتت الفائدة المرجوة من المنصّات موضع تشكيك أيضًا. ويقول أندريو روبوثام، الباحث والمحاضر في أكاديميّة الصحافة والإعلام في نوشاتيل، “كانت الحكومات طوال القرن العشرين تعتبرها (هذه المنصّات) أداة مهمّة من أدوات القوّة الناعمة، لاسيَّما إبّان الحرب العالميّة الثانية والحرب الباردة .
ويرى روبوثام أن العصر الذهبيّ لهذه الخدمات الإعلاميّة الدوليّة قد انتهى. ويعتبر أنّ الحكومات تفضّل اليوم قنوات أخرى لإسماع صوتها في الخارج، موضحا “باتت الدول تميل إلى استخدام شبكات التواصل الاجتماعيّ والاتصالات المؤسّسيّة. وبالتالي فهي تستطيع الاستغناء عن الكوادر الصحفيّة، التي تكلّف كثيرًا ولا تمتنع عن ممارسة النقد
ولا يُخفي الباحث قلقه بشأن مستقبل وسائل الإعلام العموميّة الدوليّة في الأنظمة الديمقراطيّة الغربيّة. ويضيف “من الصعب أساسًا الحفاظ على تمويل وسائل إعلام الخدمة العموميّة، فلا أرى كيف ستستمرّ الخدمات الموجّهة إلى الجمهور الأجنبيّ بشكلها الحالي، رغم نوعيّتها الممتازة.” ومع ذلك يرى أنديرو روبوثام بصيصًا من الأمل؛ إذ يقول “لعلَّ ما يحدث في الولايات المتّحدة سيدفع إلى الاستفاقة، وإدراك أهميّة الخدمة العموميّة والخدمات الدوليّة .
ويبدو تريستان ماتيلارت أكثر تفاؤلًا؛ إذ يعتبر أنّ “وسائل الإعلام هذه قد أثبتت فائدتها في فترات الاحتقان الشديد، لضمان التعدّديّة الإعلاميّة في بعض السياقات الاستبداديّة.” ويرى أنّها قد تؤدي أيضا دورًا مهمًا في حرب المعلومات التي تخوضها الدول الديمقراطيّة ضدّ الأنظمة الاستبداديّة. ويؤكّد أنّه “طالما أنّ هناك أنظمة استبداديّة، فستظلّ رسالتها قائمة .