مضافات الدرباسية وريفها: ذاكرة الكرم الكوردي والهوية المجتمعية

ماهين شيخاني.

في قلب الجزيرة السورية، وعلى تخوم الخابور والحدود، نشأت بلدة الدرباسية في ثلاثينيات القرن الماضي لتكون أكثر من مجرد نقطة على الخريطة. فقد تحوّلت خلال العقود التالية إلى ملتقى اجتماعي نابض بالحياة، بفضل ما عُرف بـ”المضافات” – تلك المؤسسات الشعبية التي جمعت بين الضيافة، والحوار، والمكانة الاجتماعية.

المضافة: أكثر من مجلس ضيافة
في التقاليد الكوردية، لم تكن المضافة مجرد مكان للجلوس وشرب القهوة، بل كانت فضاءً جامعًا يحفظ توازن المجتمع. فيها تُحلّ النزاعات، وتُدار الأحاديث، وتُستقبل الوفود، وتُناقش شؤون الناس والبلد. غياب الفنادق في البلدة جعل منها أيضًا بيتًا مفتوحًا لكل غريب أو مسافر.
تولت المضافات أدوارًا محورية في تشكيل الرأي العام، وكانت بمثابة “منابر أهلية” قبل أن تكون هنالك وسائل إعلام أو قنوات سياسية تعبّر عن تطلعات الناس، خصوصًا الكورد منهم.
 
مضافات المدينة: تنوع في الانتماء والهوية

محمد بك جميل باشا: المضافة القومية
تقع شمال البلدة، وارتبطت بالحراك القومي الكوردي. ارتادها مثقفون ووجهاء، وكانت موضع مراقبة من قبل الأجهزة الأمنية، خصوصًا خلال عهدي الوحدة السورية – المصرية والبعث. أغلقت منتصف الستينيات بعد انتقال صاحبها إلى قرية “دادا عبدال”.
 
عبد المجيد عبد القادر (أبو ملول): نَفَس ناصري ولهجة ماردلية
مضافة تمركزت في قلب المدينة، وغلبت عليها الحوارات بالعربية بلهجات الماردلية والسلاخية، نظراً لأصول معظم روادها. تميزت بنزعة قومية عربية، وأُغلقت بعد وفاة صاحبها, لكن بعد تسلم أخيه الحاج : عبد القادر المخترة  ومن بعده أولاده وحتى الآن حيث يديرها المختار فاروق 
 
عبد الأحد عيسى (بحدى العيسى): المضافة السريانية
كانت مقصدًا للسريان الذين قدموا من ماردين واستقروا في الدرباسية بعد نجاتهم من المجازر. هناك حافظوا على لهجتهم وتراثهم، وشاركوا الكورد المكان والتاريخ.
 
حسو فرحان مشكيني: المضافة المتنقلة
بدأت في مركز المدينة، ثم انتقلت شرقًا إلى حي ” الشرقي”، ثم جنوبًا بعد حادثة اغتيال صاحبها. واصل الأبناء الحفاظ على تقاليدها، واستقبلت مزيجًا من عشائر المنطقة وبالأخص الكوردية ومنها المشكينا بفروعها.
 
ملا أمين الذيب (قرتو): نزعة وطنية وشخصية مهاجرة
من دياربكر إلى الدرباسية، حمل قرتو معه وعيًا سياسيًا، فجمعت مضافته بين أبناء الوطن من مختلف المشارب، رغم أن غالبيتهم كانوا كوردًا.
حاج شيخموس شيخاني : قريب من مركز السوق .
المضافات في الريف: زعامات عشائرية وذاكرة نضالية
حاج درويش الآزيزي – القهرمانية
زعامة عشيرة آزيزا وراعي أول للجوء السريان بعد المجازر. كانت المضافة قومية الاتجاه، وتعرضت للرقابة السياسية. الجد الأعلى للراحل عبد الحميد درويش، أحد مؤسسي أول حزب كوردي في سوريا.
 
حاج حسين برو السينو – كوركوند
من زعماء عشيرة ساروخانان، ووالد سياسي كوردي بارز. اشتهرت مضافته بالكرم وحماية الضيوف، كما كانت أيضًا تحت أعين السلطة.
 
آل الملا – تل أيلول
حملت إرث عشيرة كوسكا الكوردية، وامتزج فيها الحس العشائري بالتوجه القومي، شأنها شأن كثير من مضافات ريف الجزيرة.
 
فرحان عيسى – الغنامية
مضافة ذات حضور اجتماعي في جنوب الدرباسية، كانت نشطة في علاقاتها ومفتوحة للضيوف من كل المناطق.
عيسى آغا القطنة – تل كديش
برزت كمركز تواصل اجتماعي واسع التأثير جنوب غرب المدينة.
شيخو أحمد رماكي – الخاص
من أبرز وجهاء عشيرة رماكا، وتميزت مضافته بقوة حضورها الرمزي والاجتماعي.
ومن الآغوات :
عبد الكريم آغا رستم – شاه منصور , حميد آغا التمو – فرفرة , وشقيقه نهايت آغا التمو –  , على شيخموس القطنة – تل غزال .
نورو حسو – نوفلية , محمود حاج محمد – بيركي , و غيرهم في الكثير من القرى التابعة للدرباسية
الشيخ حميد الكالي – كاكورية , الشيخ خطيب – كاكورية الشرقية .
حاج شيخموس الحمدي – مشيرفة …وغيرهم .
( وهنا لا بد أن نشير ليس  بوسعنا  ذكر جميع المضافات الموجودة في ريف الدرباسية في هذا المقال ).
المضافة في عين التاريخ: مراقبة وتهديد… وصمود
لم تكن المضافات بمنأى عن أعين السلطات، خاصة تلك التي تبنت خطابًا قوميًّا كورديًا، أو شهدت حوارات سياسية حرّة. من حقبة السراج وحتى سنوات ما بعد الوحدة، كانت الأعين تترصد كل مجلس، والجواسيس يوثقون كل همسة. ومع ذلك، قاومت المضافات، وواصلت أداء دورها، وظلت رموزًا حية للهوية والكرامة.
 
إرث يستحق التوثيق
في زمن تآكلت فيه الروابط الاجتماعية، وتراجعت مظاهر التواصل الحقيقي، تبدو العودة إلى إرث المضافات ضرورة ثقافية وأخلاقية. فهي ليست مجرد أماكن، بل ذاكرة جماعية، وحكاية شعب، ومدرسة قيم مفتوحة.
إن توثيق هذه المضافات، وأسماء روادها، ونقاشاتها، وتاريخها، هو حفظ للهوية الكوردية، ولصورة من صور العيش المشترك في الجزيرة السورية. 

قد يعجبك ايضا