د. ابراهيم احمد سمو
بعد مرور نصف قرن على واحدة من أكثر الاتفاقيات إثارة للجدل في تاريخ الشرق الأوسط، يُنظّم الحزب الديمقراطي الكوردستاني، عبر قسم الثقافة والإعلام في مكتبه السياسي، ملتقى سياسيًا وثقافيًا رفيع المستوى تحت عنوان: “منتدى نصف قرن – اتفاقية الجزائر: رؤى وقراءات جديدة”.
يُعقد هذا الملتقى في قاعة سعد عبد الله بمدينة أربيل، يوم الإثنين الموافق 26 أيار/مايو 2025، وذلك في إطار الذكرى مرور نصف قرن على اتفاقية الجزائر التي اعتُبرت لسنوات طويلة رمزًا للخيانة السياسية بحق تطلعات الشعب الكوردي. وتهدف هذه الفعالية إلى إعادة قراءة الاتفاقية من منظور تاريخي واستراتيجي جديد، واستحضار أثرها العميق على حاضر كوردستان ومستقبلها.
في ذاكرة التاريخ، تتجلى لحظات لا تُنسى، تحوّلت فيها صفحات السياسة إلى مفترق طرق، وبرزت صفقات لا تزال تداعياتها حيّة حتى اليوم. من بين هذه المحطات الفارقة، تبرز اتفاقية الجزائر، التي وُقعت في السادس من آذار (مارس) عام 1975، بين العراق وإيران، على هامش مؤتمر منظمة أوبك في العاصمة الجزائرية، بوساطة من الرئيس الجزائري آنذاك هواري بومدين.
رغم أنها قُدّمت للعالم تحت عنوان “اتفاقية سلام”، إلا أن وقعها كان مريرًا على كوردستان، إذ مثلت طعنة في ظهر الحركة التحررية الكوردية، وشرارةً لحرب مدمرة استمرت ثماني سنوات بين العراق وإيران، أعقبها انهيار أنظمة، وتفكك خرائط، وتغيرات هائلة في الشرق الأوسط.
ورغم توقيعها من قبل شخصيتين بارزتين هما نائب الرئيس العراقي صدام حسين، وشاه إيران محمد رضا بهلوي، فإن الكورد كانوا الخاسر الأكبر، إذ جُرّدوا من الدعم، وتُركوا في ميدان المواجهة وحدهم، دون سند أو ظهر، بعد أن كانت الثورة الكوردية قاب قوسين أو أدنى من تحقيق مكاسب تاريخية.
الكورد.. من النكسة إلى النهوض
لم تكن تلك اللحظة نهاية المسار النضالي، بل كانت بداية لمسار أكثر عنادًا وصلابة. فعلى أنقاض الخذلان، انطلقت شرارة ثورة جديدة، حملت اسم “ثورة گولان”، لتؤكد أن الحلم الكوردي لا يُقبر باتفاقيات، وأن الروح الكوردية لا تُقهر بالخذلان. ومع اقتراب الملتقى الثقافي والسياسي الموسوم بـ”نصف قرن على اتفاق الجزائر”، الذي ينظمه قسم الثقافة والإعلام – الحزب الديمقراطي الكوردستاني برعاية الرئيس مسعود بارزاني، يعود الحديث مجددًا عن الاتفاق، لا كتأريخ لمأساة، بل كلحظة وعي سياسي شكلت الذاكرة الجمعية للشعب الكوردي.
لغز الموت.. ونهايات رمزية
من المفارقات اللافتة، أن من ساهموا في صناعة الاتفاق، لم ينجوا من نهايات غريبة ومأساوية. فالرئيس الجزائري هواري بومدين، أصيب لاحقًا بمرض غامض أدى إلى وفاته بعد زيارات إلى بغداد ودمشق، وسط تساؤلات لم تلقَ إجابات شافية. أما وزير خارجيته، الذي تقلد لاحقًا منصب الرئاسة، فقد أمضى أيامه الأخيرة مقعدًا على كرسي متحرك، تدفعه الأيادي من حوله.
الشاه الإيراني، بطل الصفقة الآخر، أطاحت به الثورة الإسلامية، وهرب لاجئًا إلى مصر دون أن يتمكن من إنقاذ نفسه أو ممتلكاته، ومات غريبًا بعيدًا عن عرشه. أما صدام حسين، فقد صعد إلى السلطة وسط زهو، وخاض حروبًا أنهكت العراق، قبل أن يسقط سقوطًا مدويًا بيد الولايات المتحدة، وينتهي إعدامه بمشهد مأساوي وثّق نهاية مرحلة كاملة من التاريخ.
وفي كل هذه المتغيرات، ظل الكورد وحدهم من يحمل شعلة الثبات، والصبر، والإيمان بعدالة قضيتهم، فمضوا رغم الخذلان، وأعادوا بناء حركتهم التحررية بقيادة حكيمة ومخلصة.
الثورة لا تموت
في السادس من آذار، خيّم الحزن على كوردستان. فالاتفاق ألزم إيران بوقف دعمها للحركة الكوردية، في مقابل تنازلات حدودية من العراق، ما أدّى إلى انهيار الدعم اللوجستي والسياسي للمقاتلين الكورد. ومع ذلك، لم تكن تلك ضربة قاضية، بل بداية لمرحلة نضالية جديدة.
تحولت الذكرى إلى رمز يتجدد سنويًا، لتذكير الأجيال بأن الكورد لا يستسلمون مهما تكسرت الأمواج على صخورهم. وبروح نضالية عالية، أعادت القيادة الكوردية ترتيب أوراقها، وقررت نقل الثورة من الجبال إلى الداخل العراقي، عبر تنظيمات سرية وحركات شبابية، حملت على عاتقها مسؤولية الاستمرار في الكفاح.
هكذا وُلدت “ثورة گولان” كامتداد طبيعي لـ”ثورة أيلول”، في تواصل عميق بين الأجيال، تجاوز حدود الزمان والمكان، متحديًا القيود الجيوسياسية.
اتفاق الغدر.. فاتحة الحروب
رغم البنود المعلنة التي تحدثت عن احترام الحدود وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، لم يلتزم أحد بها فعليًا. وبعد خمس سنوات فقط، دخل العراق في حرب شعواء مع إيران ،. و السبب الحقيقي كان خليطًا من سيادة شط العرب. الغرور والطموح والدعم الإقليمي والدولي لصدام.
خلال الحرب، كان الكورد ضحية مرتين: الأولى بسبب حرمانهم من الدعم عقب الاتفاق، والثانية لأنهم أصبحوا عرضة للانتقام من نظام بغداد، الذي لم ينسَ مواقفهم. ومع استمرار الثورة الكوردية في الجبال، جاء فصل الأنفال المأساوي، الذي شهد إبادة أكثر من 180 ألف كوردي، في واحدة من أبشع جرائم القرن العشرين.
ومن الخراب.. ولدت كوردستان
لكن كما علّمنا التاريخ الكوردي، فإن المأساة لا تكون نهاية القصة. ففي عام 1991، ومع اشتعال الانتفاضة الشعبية عقب حرب الخليج الثانية، استطاع الشعب الكوردي أن يفرض واقعًا جديدًا، توّج بتدخل دولي فرض حظر الطيران شمال العراق،انذاك ومنح الكورد حماية غير مسبوقة.
جاء القرار الدولي 688، ليكون نواة الاعتراف السياسي والإنساني بكوردستان، وتشكّلت حكومة وبرلمان، وبُنيت مؤسسات، وبدأ كيان كوردستاني يتشكل على أرض الواقع. وفي عام 2003، بسقوط النظام الديكتاتوري، دخل الكورد مرحلة جديدة، كان لهم فيها دور أساسي في صياغة الدستور العراقي الجديد، الذي أقر بالفدرالية، وضمن مكانة قانونية ودستورية لإقليم كوردستان.
الملتقى.. من الحزن إلى البناء
اليوم، وبعد مرور خمسين عامًا على اتفاقية الجزائر، يقف الكورد ليس فقط ليحيوا ذكرى خيانة سياسية، بل ليؤكدوا أن ما بدأ كخذلان دولي، تحول إلى محطة وعي نضجت فيها الذاكرة الوطنية الكوردية، وانبثقت منها إرادة لا تلين.
الملتقى المرتقب، برعاية الرئيس مسعود بارزاني، ليس مناسبة خطابية، بل منصة لتثبيت حقائق التاريخ، وتقديم دروسه للأجيال الجديدة، التي وُلدت في ظل واقع كوردستاني جديد، وُلد من رماد القصف والمقابر الجماعية.
ختامًا..
إن اتفاقية الجزائر لم تكن نهاية، بل بداية لحركة نضالية أكثر تنظيمًا ووعيًا. ما بدا في حينه هزيمة، أصبح اليوم علامة على انتصار الإرادة الكوردية، وعلى أن الكرامة لا تُباع في الموائد السياسية.
وها نحن، في ذكرى مرور نصف قرن، نقف لا لنرثي الماضي، بل لنحتفل بالصمود. ونقول للعالم: من رحم الخيانة، وُلِدت كوردستان الجديدة.
كوردستان التي لا تُقهر، ولا تنكسر، ولا تساوم.