د. ابراهيم احمد سمو
<في كل عام، وتحديدًا في 21 أيار/مايو، يحتفل العالم بـ اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية. هو يوم أقَرّته الأمم المتحدة عام 2002، بعد أن تبنت منظمة اليونسكو “الإعلان العالمي للتنوع الثقافي” في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، حيث برزت الحاجة إلى تعزيز التفاهم بين الثقافات، ومواجهة الجهل والكراهية بالمعرفة والانفتاح.>
واللافت أنّ اليوم الذي يسبق هذا التاريخ، أي 20 أيار/مايو، هو أيضًا يوم عالمي، لكنه مخصص لـ الشاي، هذا المشروب الذي يجمع ملايين البشر حول طاولة واحدة، باختلاف طبقاتهم ومعتقداتهم وهوياتهم. فالشاي موجود في كل بيت، ويتوفر بجميع أنواعه، من الأرخص إلى الأغلى، ويُشرب في الشرق كما في الغرب، في القرى كما في المدن. ولعلّ في هذا التقارب الرمزي ما يُمهّد لفهم أعمق لما يعنيه التنوع الثقافي.
التنوع الثقافي… حاجة إنسانية وليست ترفًا
نعيش اليوم في عالم تتقارب فيه الشعوب، وتتسارع فيه حركة الأفكار والهويات عبر التكنولوجيا والعولمة. لكن رغم هذا التقارب المادي، مايزال كثير من الشعوب والمجتمعات، لا سيّما في منطقتنا الشرق أوسطية، وفي إقليم كوردستان على وجه الخصوص، بحاجة ماسة إلى تطوير أدوات التفاهم والحوار بين مكوناتها المختلفة من أديان وقوميات وثقافات.
فالتنوع في كوردستان ليس مجرد واقع جغرافي أو ديموغرافي، بل هو إرث حيّ، تتعايش فيه الديانات والمذاهب والقوميات من كورد، عرب، تركمان، كلدان، آشوريين وأيزيديين وغيرهم. هذا الواقع الغني يجب ألّا يُعامل كقنبلة موقوتة، بل كفرصة تاريخية لصناعة نموذج فريد من العيش المشترك، يقوم على التفاهم المستمر، وتعميق الحوار، وكسر الصور النمطية التي رسّخها التاريخ أو الجهل أو الصراعات الماضية.
من الاختلاف إلى التلاقي
في مجتمعاتنا، كثيرًا ما يُختزل الآخر في صفة واحدة: دينه، أو قوميته، أو مذهبه، كأننا نرى الناس من ثقب ضيق. فيُقال “هذا مسلم”، و”ذاك مسيحي”، أو “هذا كوردي” و”ذاك عربي”، فيتحوّل التنوع إلى حواجز غير مرئية، تبني جدرانًا في العقول قبل أن تبنيها في الواقع.
لكن دعونا نتخيل العكس: ماذا لو اعتبرنا هذا الاختلاف رصيدًا مشتركًا؟ وماذا لو بدأنا نبني حوارات دائمة لا تُقصي أحدًا؟ ماذا لو تبنينا منتديات ثقافية ومؤتمرات فكرية تفتح الأبواب أمام الجميع، دون فرضٍ أو إلغاء، بل بتقدير واحترام؟
قوانين تحمي التنوع… وتُعزّز الاستقرار
لكي لا يبقى الحوار حبيس الندوات والمناسبات، فلا بد من أن تُترجم هذه الروح إلى سياسات رسمية وقوانين عادلة، تُنظم العلاقة بين المكونات المختلفة، وتضمن المساواة، والتمثيل العادل، وحرية المعتقد، وتحمي اللغات والتقاليد من الذوبان أو التهميش.
في إقليم كوردستان، يمكن أن يكون هذا المسار أكثر إلحاحًا، لأن الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي مرهون بقدرتنا على تثبيت أسس الأخوّة المدنية، وتفكيك بقايا العقلية القديمة التي تقول: “كل من ليس على ديني فهو خصمي”، أو “من لا يشبهني لا يستحق صوتي أو حقي”.
فالسلام لا يُفرض بالقوة، إنما يُبنى على الثقة والتفاهم. ومن الجهل يولد الصدام، ومن المعرفة يولد الاستقرار.
الإعلام والثقافة… جناحا التغيير
لا يمكن الحديث عن التنوع دون التوقف عند الإعلام والثقافة، بوصفهما النافذتين الأكبر في تشكيل الوعي الجماعي. للإعلام دور جوهري في كسر الصور النمطية، ومحاربة العنصرية، والترويج لفكرة أن الاختلاف لا يعني العداء.
كذلك، على المؤسسات الثقافية أن تكون في طليعة هذا المسار، عبر ورش العمل، والعروض الفنية، والندوات الفكرية، التي تُعيد تشكيل الذائقة العامة نحو الانفتاح والتسامح.
الدين كجسر… لا كحاجز
الحوار بين الأديان يجب أن يُبنى على قاعدة “التعارف لا التنازع”، و”الاحترام لا الفرض”. فالرسالات السماوية جميعها، رغم اختلافاتها، تُجمع على قيم العدل، والرحمة، والتكافل. وهذا ما نحتاجه في منطقتنا؛ أن نُحوّل الدين إلى جسر تفاهم لا ساحة صراع.
في كوردستان، حيث تتعدد المعابد والكنائس والمساجد، يمكننا أن نبني مثالًا للعالم يُظهر أن الدين لا يفرّق، بل يعلّمنا أن نحبّ الآخر كما نحبّ أنفسنا.
الخلاصة: دعونا نُشبه الشاي!
في كل بيت، هناك نوع مختلف من الشاي، لكن الجميع يجتمعون على طعمه ودفئه ورائحته. فليكن هذا حال ثقافاتنا أيضًا: مذاقات مختلفة، لكنها تجتمع على مائدة واحدة.
اليوم العالمي للتنوع الثقافي ليس يومًا للترف، بل تذكير سنوي بأن وحدتنا لا تكون إلا باحترام اختلافنا، وأن المجتمعات المتماسكة لا تُبنى بالقوة ولا بالإقصاء، بل بالحوار والتفاهم والاعتراف المتبادل.
ومن هنا، تبدأ التنمية الحقيقية، ويولد السلام من رحم التعدد، ويكبر الوطن حين يتّسع للجميع