لعنة الغريب

 

رؤى سعد الدين

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

في تلك الحارة الضيقة، حيث البيوت متلاصقة كأسرار النساء، كانت الشمس تتسلل عبر الأزقة محملة برائحة الخبز الطازج والبن المغلي. كل صباح، تبدأ الحياة هناك كأنها سيمفونية تتكرر كل يوم، لكنها لا تفقد رونقها أبدًا.

الأطفال يركضون بين البيوت، ضحكاتهم تتعالى، وأقدامهم الصغيرة تضرب الأرض بقوة البراءة. يصنعون كرتهم من الجوارب القديمة، ويتناوبون على الركض خلفها بحماس لا ينطفئ. لا يعرفون الخوف ولا يحملون في قلوبهم سوى أحلام الغد البسيطة.

على أطراف الأزقة، يقف الرجال يرتبون أزرار قمصانهم قبل أن يغادروا إلى أعمالهم. البعض يتجه نحو السوق، يحمل صناديق الفاكهة والخضار على كتفيه، والبعض الآخر يختفي بين الأزقة وهو يربط كوفيته بإحكام استعدادًا ليومٍ طويل. تمر العجائز جالسات عند الأبواب، يراقبن المشهد نفسه منذ سنوات، كما لو أن الزمن توقف عندهن، بينما الجارات يتبادلن الأخبار على عتبات البيوت، يحتسين فناجين المتة، وأحاديثهن لا تتغير، فقط تتبدل الأسماء والقصص.

في الخلفية، تصدح أصوات الباعة الجائلين، ينادون على بضائعهم بصوتٍ اعتادت عليه الحارة كأنه جزءٌ من أنفاسها. “لبن طازج يا حارة!” “خضار اليوم يا ستات!”، فتفتح النوافذ، وتبدأ النقاشات الحادة حول الأسعار والجودة.

كل شيء في الحارة كان ينبض بالحياة، حتى ذلك اليوم الذي تغيرت فيه الملامح، وتحولت الضحكات إلى همسات حذرة.

لم يعرف أحد من أين جاء. ظهر فجأة في إحدى زوايا الأزقة، ملفوفًا بثيابٍ ممزقة متسخة، تفوح منه رائحة الغربة والجوع. كان وجهه شاحبًا كأنه لم يرَ الشمس منذ زمن، عيناه غائرتان، تخفيان خلفهما قصصًا منسية، وجسده هزيل كأنما اقتطعت منه الحياة كل ما يمكن أن يمنحه القوة.

لم يكن يتحدث كثيرًا، ولم يكن ينظر في أعين الناس مباشرة، بل يسير بخطوات متعثرة كأنه يتوقع أن يُطرد في أي لحظة. لم يعرفه أحد، ولم يكن أحد يعرف إن كان يحمل اسمًا أو ذكرى في هذه الدنيا.

ورغم ذلك، لم تتغير قلوب أهل الحارة. فتحوا له أبوابهم كما لو كان واحدًا منهم، احتضنوه بطيبتهم التي لم تتغير رغم قسوة الزمن. الجارات أعددن له الطعام، قدموا له الخبز الساخن وكوبًا من الشاي، ووضعوا أمامه بعض الثياب القديمة، علّه يجد فيها ما يقيه برد الليل.

“مسكين، شكله مشى كثير قبل ما يوصل لهون.”

“يمكن فقد أهله بالحرب؟ الله وحده يعلم شو شاف.”

“يمكن يكون واحد من ولادنا اللي راحت أخبارهم؟!”

لكنه لم يكن يشكر، ولم يتحدث، فقط يأكل بصمتٍ، كأنه يؤدي طقسًا لا يعنيه.

الرجال راقبوه بحذر، لم يكن مألوفًا، لكنه لم يكن يشكل خطرًا. سمحوا له بالبقاء، حتى أنه وجد له زاوية ينام فيها عند جدار قديم في الحارة.

 

 

قد يعجبك ايضا