مهند محمود شوقي
إلى متى يعامل الكرد كضيوف وليس كشركاء؟
في قلب الجغرافيا العراقية، تقف كردستان شامخة بتاريخها العريق وثقافتها الغنية، حاملة همّ الشراكة التي طالما سعت إليها بصدق في بناء عراق تعددي وعادل. لكن، وعلى الرغم من ذلك، لا تزال تواجه التهميش والخذلان من حكومات بغداد المتعاقبة. منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، دفع الكرد ثمنا باهظا لمجرد تمسكهم بهويتهم القومية وحقهم في العيش بكرامة. لم تكن مآسيهم حوادث عابرة، بل فصولا من معاناة مستمرة من الإنكار السياسي والثقافي، إلى قمع ميداني تجلّى في حملات الأنفال التي أودت بحياة الآلاف، وقصف مدينة حلبجة بأسلحة كيميائية، وفق ما وثقته منظمات حقوق الإنسان والأمم المتحد (UNAMI) – تقرير 2010.
مع سقوط النظام السابق عام 2003، توفرت فرصة جديدة لبناء عراق ديمقراطي يضمن حقوق المكونات كافة. شارك الكرد بفعالية في صياغة الدستور العراقي لعام 2005، الذي نص صراحة على الفيدرالية واعتراف كردستان كإقليم دستوري يتمتع بالسلطات والحقوق (الدستور العراقي، المادة 1 و140). إلا أن هذا الدستور ظل حبرا على ورق، حيث تعرضت كردستان لضغوط اقتصادية وسياسية من بغداد، بما في ذلك قطع رواتب الموظفين وعرقلة تنفيذ بنود الدستور ذات الصلة بالإقليم (تقارير وزارة المالية في حكومة إقليم كردستان).
ورغم هذه التحديات، لم تتخلّ كردستان عن التزامها الإنساني والوطني. فقد استقبلت أربيل، بقيادة الرئيس مسعود بارزاني، مئات الآلاف من النازحين العراقيين واللاجئين السوريين خلال ظهور تنظيم داعش (تقارير المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، 2014 – 2017). فُتحت أبواب الإقليم دون تمييز، مؤكدا أن القضية إنسانية قبل أن تكون سياسية، وهو موقف أكسب كردستان احتراما دوليا متزايدا.
سياسيا، لعبت أربيل دورا محوريا في دعم استقرار العراق، مستضيفة عدة اجتماعات ومفاوضات ساهمت في تشكيل الحكومات المتعاقبة بعد 2005 (تقارير المركز العراقي للدراسات الإستراتيجية). لكن، مع ذلك، ظل الكرد يعانون من تهميش ممنهج في توزيع المناصب السيادية، مما أثار استياءً شعبيا ورسميا داخل الإقليم.
كل هذه المآسي دفعت الكرد إلى إجراء استفتاء عام 2017 على الاستقلال، خطوة جاءت بعد سنوات من الإخفاق في تحقيق المطالب الدستورية والسياسية (إعلان الاستفتاء، مجلس النواب في كردستان 2017). لم يكن الاستفتاء تهورا، بل تعبيرا مشروعا عن رغبة شعب يائس من وعود لم تُنفذ ومساومات سياسية مستمرة.
خلال الحرب ضد داعش، كانت قوات البيشمركة الذراع الحصينة التي دافعت عن العراق والمنطقة، وقدمت تضحيات جسيمة في تحرير العديد من المناطق (تقارير وزارة البيشمركة 2014 – 2017). ومع ذلك، يعاني منتسبوها اليوم من حرمان من حقوقهم، خصوصا قطع الرواتب والدعم الرسمي، بينما لا تزال أسر الشهداء تنتظر الاعتراف والتعويض (تقارير منظمات حقوق الإنسان الكردية).
تُطرح اليوم تساؤلات جوهرية أمام الضمير العراقي: إلى متى سيُعامل الكرد كضيوف وليس كشركاء؟ لماذا لا تُعترف اللغة الكردية في مؤسسات الدولة؟ ولماذا تُغيب الثقافة الكردية من الإعلام والمناهج الرسمية؟ استمرار هذا الإنكار لن يؤدي إلا إلى المزيد من الهشاشة في نسيج العراق الاجتماعي والسياسي.
الكرد لا يطالبون بالانفصال، بل بالإنصاف. يريدون دولة تحترم حقوقهم وتطبق الدستور، رواتب بلا مماطلة، وتعويضات للضحايا بلا تسييس، وتمثيلا عادلا بلا استغلال انتخابي. كردستان أثبتت عبر تاريخها أنها عنصر استقرار ومصدر قوة، ولكن استمرار خذلانها سيهدد مستقبل العراق بأكمله.
كردستان ليست عبئا على العراق، بل فرصة ضائعة ومظلة كان يمكن للجميع أن يستظلوا بها، لو كانت النوايا عادلة وصادقة. وعندما تستفيق بغداد، قد تدرك أن ظلمها لكردستان لم يكن مجرد خطأ سياسي، بل جريمة بحق وحدة العراق نفسها.