إلى متى ؟

د. عبدالله ملا ويسي*

إن الممارسات التي تنتهجها الحكومة الاتحادية في بغداد تجاه إقليم كردستان، ولا سيما ما يتعلق بمسألة المستحقات المالية، تُعدّ خرقًا واضحًا للدستور العراقي، وانتهاكًا صريحًا لمبدأ الشراكة السياسية والتوافق الوطني الذي يُفترض أن يكون أساسًا للحكم في دولة متعددة القوميات والمكونات. فرغم التأكيد المتكرر على مبدأ المساواة بين جميع مكونات الشعب العراقي في الحقوق والامتيازات، إلا أن الواقع يعكس تمييزًا ممنهجًا ضد الشعب الكردي، الذي لطالما كان ضحية لسياسات مركزية مجحفة على مدى التاريخ.

لا يخفى على أحد أن المكون الكردي يشكل ركيزةً أساسيةً في العملية السياسية العراقية، وكان دائمًا وفياً لتعهداته وشراكاته السياسية، ولم يتنصل من مسؤولياته تجاه الحكومة الاتحادية. ومع ذلك، فإن الاضطراب في صنع القرار السياسي لدى بعض الجهات المتنفذة في بغداد، وعدم الالتزام بالاتفاقات المبرمة، أديا إلى تآكل الثقة لدى الشارع الكردي، وشعوره بأن الحكومة الاتحادية لا تتعامل معه كشريك حقيقي، بل كطرف تابع تُفرض عليه قرارات دون حوار أو تفاهم مسبق.

إن تمنهج السياسية المتكررة – من قبل الحكومة العراقية- ذات الطابع الإقصائي أو المسيء، لا تسهم إلا في تعميق الفجوة بين المركز والإقليم، بل تُعدّ مساسًا مباشرًا بكرامة مكون وطني أصيل، شارك في بناء العراق وقدم التضحيات الجسام من أجل الحصول على حقوقه المشروعة، وليس من المنصف أن يُكافأ هذا التاريخ من النضال، من مقاومة الدكتاتورية و تحمل الأنفال والإبادة الجماعية والقصف الكيميائي وحملات التهجير القسري والتعريب، بمزيدٍ من الضغوط المالية والسياسية والتهميش المؤسساتي.

كان الأجدر بالحكومة المركزية، بدلاً من استخدام الملف المالي كورقة ضغط سياسي، أن تبادر إلى معالجة تركة المظالم السابقة وتعويض الإقليم بشكل عادل، تعزيزًا لمفهوم الدولة الجامعة التي تحتضن جميع مكوناتها دون تمييز أو إقصاء، والتي على أساسها تم تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، لكن ما يحدث اليوم لا يعبّر عن شراكة سياسية حقيقية، ولا عن احترام للدستور أو القانون، بل يُظهر توجهًا أحاديًا يُغيب قيم العدالة والمواطنة المتساوية.

لقد التزم الإقليم بواجباته تجاه المركز، وسلّم جميع موارده وفق الاتفاقات، دون اللجوء إلى التصعيد أو المقاطعة، ولكن للأسف فإنّ الحكومة الإتحادية تواصل سياسة المماطلة في إرسال الحصة الشهرية للإقليم في الموازنة الإتحادية، وتتخذ من رواتب مواطنيه ورقة ضغط رغم وفاء الإقليم بكافة التزاماته الدستورية والقانونية وتنفيذه كل الإتفاقيات المبرمة، حيث إنّ الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة العراقية تعكس بشكل واقع العقلية المركزية السائدة في بغداد وتتجاوز كل الأطر الدستورية المنظمة لعلاقة الإقليم بالمركز، وتُعتبر تعديًا واضحاً على الحقوق الدستورية لمواطني الإقليم، فالعقلية المركزية تسعى لعرقلة قدرة الإقليم على إدارته الناجحة خدمة لإجندات تهدف إلى الهيمنة على العراق بشكل مركزي وغير دستوري، ويتم تصوير مسألة المستحقات المالية وكأنّها منة وفضل الساسة العراقيين على الإقليم، حيث أنَّ بعض السياسين ومؤسساتهم الإعلامية يروجون المعلومات المضللة لتأليب رأي الشارع العراقي بأنَّ الإقليم يستحوذون على خيرات العراق وموارده في محافظات الوسط والجنوب، بهدف تضليل الرأي العام العراقي والحصول على المكاسب الإنتخابية.

وفي ظل هذا الواقع، جاءت رسالة الرئيس مسعود بارزاني في الخامس عشر من آيار إلى بغداد بمضمون واضح وصريح، حيث عبّرت عن الغضب الشعبـي الكوردي المتراكم، ورفضه للاستمرار في دوامة التهميش والإهانة، مؤكدًا أن الشعب الكوردي لم يعد مستعدًا لتحمّل هذه المعاناة، ولا القبول بسياسات الإذلال المتكررة، وكانت رسالته حازمة في معناها، مؤكداً على أنّ الكورد ليسوا متسولين، بل هم أصحاب قضية وهوية وحقوق مشروعة، لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف.

كم من الدماء أراقها الكورد في سبيل الدفاع عن كرامتهم، وعن أرضهم، ووطنهم؟ لم تنحنِ إرادتهم، لا أمام دبابات الأنظمة القمعية، ولا في وجه الطائرات الحربية، ولا تحت أهوال القصف الكيميائي، ولا في خضم حملات الأنفال والتهجير القسري وسياسات التعريب القسرية.
رغم كل ذلك، ظل الكورد صامدين، متمسكين بحقهم في الحياة والكرامة. ومن حق الرئيس مسعود بارزاني أن يتساءل، بكل وضوح: إلى متى يُفرض علينا هذا الظلم؟ إلى متى يستمر التهميش وكأن صوتنا لا يُسمع، وكأن تاريخنا لا يُرى؟

لذا: ان ما تمارسه بغداد اليوم تجاه كردستان لا يمكن وصفه بأنه شراكة وطنية، ولا هو توافق سياسي، ولا هو التزام بالدستور، بل هو استمرار لنهج الإقصاء والتهميش، وإلى جانب كونه انتهاكًا صريحاً للدستور فإنَّه يتعارض تماماً مع مباديء الشريعة الاسلامية، التي تدعو إلى العدل والإنصاف، ونبذ الظلم والتمييز بين القوميات.

*رئيس اتحاد علماء الدين الإسلامي في اقليم كوردستان

قد يعجبك ايضا