عبد الحميد الرشودي
يعتبر المرحوم الاستاذ محمد فهمي المدرس من المع الكتاب السياسيين العراقيين الذين برزوا في الميدان السياسي منذ اعلان الدستور العثماني الى ما بعيد اندلاع الحرب الكونية الثانية، فقد حاز مركزا ممتازا بين الكتاب السياسيين المصلحين الاجتماعيين بما ألف من كتب وما دبج من مقالات كان يرفد بها الصحف العربية والتركية على حد سواء.
مولده
ولد فهمي المدرس في بغداد سنة 1873م في بيت علم وفضل وأدب، حيث كان والده عبد الرحمن افندي بن سليم المدرس قاضيا شرعيا دائميا في محكمة بغداد التجارية.
وتنسب عائلة فهمي المدرس الى قبيلة خزرج القاطنة في الموصل وكان جده الشيخ سليمان اول من نزح من هذه العائلة فاتخذها سكنا ومقاما. وكان اول من لقب بلقب المدرس من هذه العائلة احمد الحافظ مدرس مدرسة السليمانية ببغداد اذ كان اول “مدرس” فيها، وقد عرف افراد هذه الاسرة فيما بعد “بآل المدرس“.
دراسته
تلقى الاستاذ المدرس بادئ ذي بدء مقدمات العلوم والقرآن الكريم عن والده، ثم اخذ سمته الى المدارس العلمية التي كانت تعقد في المساجد فتلمذ على جلة علماء عصره كالعلامة عبد السلام الشواف والعلامة الشيخ عبدالرحمن القره داغي والعلامة الشيخ اسماعيل الموصلي والعلامة نعمان افندي الالوسي والعلامة محمد سعيد افندي، ثم اخذ فنون الخط عن العلامة السيد محمود شكري الالوسي.
ولما كانت ثقافة العصر امشاجا من العربية والتركية والفارسية فقد عكف فهمي المدرس على إتقان هذه اللغات، فتعلم التركية باعتبارها لغة الدولة، واتقن الفارسية باعتبارها لغة ادب وشعر، كما اصاب بهم من اللغة الفرنسية التي اتاحت له اطلالات واسعة على آداب الامم الغربية، فحصل تلاقح فكري بين ثقافته العربية الاسلامية والثقافة الغربية الحديثة مما ظهر أثره جليا في كتاباته وتحليلاته فيما بعد.
وظائفه
وقد شاع فضله وذاع ذكره ولما يبلغ الحادية والعشرين فاختير مديرا لمطبعة الولاية في بغداد مع تكليفه بتحرير القسمين العربي والتركي من جريدة “الزوراء” التي انشاها الوالي مدحت باشا في بغداد، كما عهد اليه في الوقت ذاته تدريس العربية والتركية والفارسية في المدرسة الاعدادية الملكية. وكان بالاضافة الى ذلك يتولى الوعظ والارشاد في مساجد بغداد، ومما يؤثر عنه انه اول واعظ تولى وعظ الناس بغير كتاب اذ كان يعتمد حافظته وذاكرته الوفادتين، ومن أشهر المساجد التي شهدت وعظه وارشاده جامع الوزير وجامع السراي.
واختير عضوا في مجلس معارف بغداد، وبذلك يكون قد دخل في عداد “خلفاء قلم المكتوبي” ، كما عين ناظرا لمدرسة الصنائع اضافة الى وظائفه الاصلية.
لقد كان المدرس – رحمه الله – ميالا بطبيعته الى حب الاصلاح وكان كثيرا ما يطلق لسانه في نقد اعمال الولاة ويجرح تصرفاتهم المضادة لاماني الامة، وكان يغشى مجالس الوجوه والاعيان المعروفين بميولهم المعادية للسلطة مما جعل عيون الولاة تترصده وتراقب حركاته وسكناته، رد على ذلك ان المدرس كان يندفع في تلك المجالس بحماس الشباب المتعطش للإصلاح فيطلق العنان للسانه مما حمل جواسيس السلطة على الوشاية به وانهاء خبره الى السلطان عبد الحميد، فاغتاظ السلطان منه واصدر ارادته السنية بتاريخ 10 تشرين الاول 1321 رومية (1905 م) بنقله الى جزيرة “رودس” لإشغال وظيفة مدير مطبعة الولاية هنالك، وقد استطاع المدرس بذكائه ودهائه من التقرب والتودد الى الوالي وذلك بتطوعه لتدريس ابنائه وكسب رضائه مما حمل الوالي على ان يحسن الظن به فظهر ذلك في التقارير السرية التي كلف برفعها عن المدرس الى الاستانة فكان يثني على سلوكه وكفاءته واخلاصه للسلطة وولائه للسلطان مما جعل السلطان يصدر ارادته في 9 تشرين الثاني 1322 رومية (1906 م) القاضية بإرجاعه الى بغداد واعادته الى وظائفه السابقة التي كان يتولاها قبل نقله منفيا الى جزيرة “رودس“.
وبعد عودته الى بغداد انتخب عضوا في مجلس اصلاح المعارف واستمر في وظائفه هذه الى تاريخ 20 نيسان 1324 رومية حيث سافر مجازا الى “فروق” وكان يحمل معه كتاب توصية الى ابي الهدى الصيادي ليستعين بنفوذه وجاهه الواسعين في الحصول على منصب يليق بفضله وعلمه وكماله. فلم يمض على وجوده في الاستانة شهران حتى قامت الحركة الدستورية في 10 تموز 1908 وخرجت الجماهير الغاضبة صباح ذلك اليوم الى الشوارع والساحات تخطب وتهتف، فالتقى بها فهمي المدرس..
وفي الاستانة يبدأ المدرس حياة جديدة ، فيغير زيه ويرتدي البدلة الافرنجية والطربوش بدلا من الجبة والعمة ويحلق لحيته ويحمل في يده العصا، ثم ينخرط في سلك التعليم العالي “فانتخب استاذا لاصولالكتابة في اللغتين العربية والتركية في (كلية الالهيات) من جامعة الاستانة، فاستاذا للاداب العربية في كلية الاداب، وللغة العربية في كلية الالسنة من الجامعة المذكورة في عين الوقت، وعلاوة على ذلك عهد اليه بكرسي استاذ “حكمة التشريع الاسلامي” في “ملكية شاهانة” مع تعليم اللغة العربية وآدابها فيها، وانتخب استاذا لتاريخ الآداب العربية في جامعة الاستانة، وللاداب العربية في مدرسة الواعظين العالية، واستمر على التعليم في هذه المدارس العالية اثني عشر عاما من غير انقطاع.
الى الشام
لقد استمر فهمي المدرس في الاستانة – كما قدمنا – اثنى عشر عاما لم يبرحها الا بعد قيام حكومة الشام وتسلمه خطابا شخصيا من تلميذه في دار الفنون فيصل بن الحسين يستقدمه فيه الى الشام للافادة من خبرته في شؤون التربية والتعليم في الحكومة الجديدة، فيستجيب المدرس ويخف في 18 حزيران 1335 رومية (1920) متوجها الى الشام. وكان في نيته الاقامة هناك فقد جلب معه – فيما جلب – مكتبته الضخمة الكبيرة.
ولكنه بعد سقوط حكومة الشام وتفرق رجالها على ايدي سبأ ترك المدرس الشام في 24 ايلول 1335 رومية متوجها الى البلاد الاوروبية حيث سلخ عاما ونصف عام متنقلا بين مدريد ولندن وباريس. وقد ذكرت الاستاذة “بتول المدرس” نجلة المرحوم فهمي المدرس ان والدها قد افاد كثيرا من رحلته هذه الى البلاد الاوروبية حيث “درس فيها عادات وتقاليد الدول التي زارها وتعمق في دراسة حضارتها عن طريق المتاحف والاثار“.
وفي كتاب الترشيح الذي رفعه المرحوم صالح باش اعيان وزير الاوقاف يومذاك الى مجلس الوزراء لاختيار فهمي المدرس امينا لجامعة آل البيت اشارة اخرى الى افادة المدرس من هذه الرحلة، جاء فيه:
“ولقد تضاعفت مقدرته بمناسبة اقامته سنة ونصف في اشهر بلاد اوروبا كباريس ولندن وغيرهما حيث اطلع على وضع اشهر الجامعات كـ (الصوربون) و(كيمبريج) و(اوفسفورد) واجتمع باساتذتها ووقف على انظمتها، وكذلك في القاهرة اثناء سفره الى الديار المصرية بمقابلة علمائه واطلاعه على جامعتها ونظامها“.
عودته الى الوطن
لقد مكث المدرس في البلاد الاوروبية قرابة العام ونصف العام ثم عاد الى العراق قبيل تأسيس الحكم الوطني في 23/ آب 1921، حيث اختير رئيسا للامناء في البلاط الملكي، الا انه لم يمكث في وظيفته هذه اكثر من سنة واحدة بسبب تهمة لفقت ضده عند زيارة المندوب السامي البريطاني “بيرسي كوكس” للملك فيصل الاول مهنئا بعيد التتويج الاول، ذلك انه تجمعت في ساحة البلاط الملكي في 23 آب 1922 تجمعات واسعة قادها الحزبان القائمان يومذاك وهما الحزب الوطني العراقي وحزب النهضة بمناسبة الذكرى الاولى للتتويج ، ثم لم يلبث ان صعد وقد يمثل قادة الحزبين لتهنئة الملك واسماعه مطاليب الشعب، وقد استقبلهم الملك غير انه اعتذر عن سماع كلماتهم وخطبهم لارتباطه بموعد مسبق مع المندوب السامي البريطاني، وامر رئيس الامناء الاستاذ فهمي المدرس بالتوجه مع الوفد الى الجمهور والاستماع الى خطبهم ومطالبهم وابلاغها اليه، وفعلا انسحب الوفد يتقدمه رئيس الامناء وخرجوا الى الشرفة المطلة على ساحة البلاط حيث الجموع المحتشدة، وبدأ الخطباء يستعرضون اوضاع البلاد واطماع الانكليز وموقف الشعب من امانيه الغالية.. وفي غمرة هذا الجو المشحون، حضر المندوب السامي الى البلاط، وما كاد يرى ما يرى حتى اضطرب وامتقع لونه وتغيرت ملامحه، وشقت سيارته – بصعوبة – طريقها بين صفوف الجمهور، ولولا اسراع حرس البلاط واحاطتهم بالسيارة وصاحبها لاعتدى الشعب عليه، وما كاد المندوب السامي البريطاني يترجل من سيارته ويرتقي السلم متوجها لمقابلة الملك حتى دوت هتافات تعلن سقوط الانتداب والانكليز والاستعمار، واختفى المندوب السامي لحظات ثم لم يلبث ان خرج – بعد تهنئة الملك- وهو بادي الاضطراب وركب سيارته وقفل عائدا الى دار الاعتماد.. حدث كل هذا والخطيب يخطب والجماهير تهتف وفهمي المدرس يستمع ويرى ليوافي الملك بما سمع ورأى..
ويبدو ان المندوب السامي وجدها فرصة طالما انتظرها بغيظ دفين، فما كان يعود الى مقر عمله حتى حرر كتاب احتجاج شديد ارسله الى الملك في اليوم التالي.
وهكذا تم للإنكليز ما ارادوا، فقد استطاعوا ان يبعدوا فهمي المدرس عن البلاط “لانهم وجدوا بقاءه في البلاط خطرا يعرقل مصالحهم ويخلق العثرات امام سياستهم”، كما هيأ عملهم هذا الجو الملائم لشن حملة اعتقالات واسعة ضد المواطنين المعروفين بنشاطهم السياسي المضاد لهم ولمشاريعهم الاستعمارية لتمرير معاهدة 1922.
وبذلك انقطعت صلة المدرس بالبلاط منذ 1 ايلول 1922 ..
المدرس وجامعة ال البيت
لقد اختير المدرس بتاريخ 11 كانون الثاني 1922 عضوا في لجنة التأسيس لجامعة آل البيت للنظر في وضع اسس اول جامعة في العراق واختيار المناهج الدراسية الملائمة لها، وفي 13 نيسان 1924 انتخب المدرس امينا لجامعة آل البيت.. انتخب امينا للجامعة بعد انزوائه عامين في عقر داره لاسباب لا يعلمها الا الله والراسخون في العلم. وقد افرغالمدرس وسعه واستنفذ جهده في سبيل ارساء الجامعة على مناهج علمية رصينة تستمد اتجاهاتها من ينابيع الثقافة الاسلامية، فخطط للجامعة دروسا علمية ممتازة واختار لها اساتذة فضلاء، وعمل على اصدار مجلة باسم “الجامعة” حفلت بمحاضرات الاساتذة ودراساتهم التي كانوا يلقونها على الطلبة.
وقد عارض هذا الاتجاه الاسلامي الذي كان يرغب المدرس ان يجعله الطابع المميز للجامعة تفر من رجال السياسة والتربية كانوا يرون وجوب الفصل بين التعليم والدين، زاعمين ان التعليم علم يستند الى العقل والتجربة وان الذين عقيدة في القلب! وقد كان على رأس هذا الاتجاه نوري السعيد وفاضل الجمالي وساطع الحصري، فوضعت العراقيل في سبيل الجامعة منذ بدايتها الى ان تم إغلاقها بموجب قرار مجلس الوزراء في 24 نيسان 1930 القاضي بسد الشعبة الدينية سدا مؤقتا.
اثنا عشر يوما في المعارف
وفي 15 آب 1935 صدرت الارادة الملكية بتعيين فهمي المدرس مديرا عاما للمعارف براتب الدرجة الاولى وقدره (70) دينارا، وقد باشر المدرس وظيفته الجديدة هذه بتاريخ 18 آب 1935 ، الا انه لم يستمر فيها مدة طويلة، فقد وجد في طريقه من العراقيل والمضايقات ما يجعل من المستحيل عليه الاستمرار وتحقيق المنهج الاصلاحي الذي ينشده، فاستقال بتاريخ 28/8/1935.
وطفق بنشر مقالات ضافية حول المعارف واصلاحها يكشف فيها للرأي العام العراقي حقيقة الامور في وزارة المعارف ويشير على المسؤولين – الذين حاربوه – بالوسائل الناجعة لانقاذ معارف البلاد من اعاصير التسيب والانحراف والفساد.
في دار العلوم
وبعد وفاة الحاج نعمان الاعظمي مدير دار العلوم في سنة 1345 هـ – 1936 م اختير المدرس خلفا له، وقد استمر في وظيفته الى سنة 1357 هـ – 1938م.
المدرس في اعوامه الاخيرة
لقد اصطلح على المدرس في اعوامه الاخيرة كثير من الهموم والهواجس والاوهام التي كان مبعثها شيخوخته وجهاده الطويل وبوار سعيه، زد على ذلك ما كان يقاسيه في بيته من مشاكل ومنغصات مردها التفاوت الكبير بين سنة وسن زوجه، مما جعله يركن الى الصمت في اغلب الاوقات ، فلم يؤثر عنه في هذه السنوات من النشاط الادبي والسياسي شيء يذكر اللهم الا اذا استثنينا ما كان يكتبه بمناسبة المولد النبوي وخطبه الوطنية التي اذاعها من محطة اذاعة بغداد غداة حركة مايس 1941 التي اندفع في تأييدها وتأييد القائمين بها رغم اعتقاده بفشلها الاكيد، فقد علل هذا التأييد وذلك الاندفاع بقوله “انها فرصة عرضت علي لابث مبدئي واذود فيها عن عقيدتي واهاجم اعداء امتي وقومي فيجب ان اغتنمها، وليس الشرط ان تنجح القضايا الوطنية حالا انما المهم التضحية بالقضايا الفردية، فاذا انتهت حركة رشيد عالي سنعود ثانية الى عراكنا مع نوري السعيد لاني واثق من نصرهم لان قواعدهم فيا لبلد، وهذه الاردن قريبة بجيشها لنصرة الانكليز، فلم لا اشارك في الدفاع عن كرامة وطني وقومي وامتي وليكن ما يكون بعد ذلك“.
وبعد فشل حركة مايس 1941 اغلق فهمي المدرس مجلسه واوصد بابه دفعا لجواسيس السلطة المتواطئة مع الانكليز، الا ان بعض اصفياء المدرس ومريديه لم يثنهم ذلك عن زيارته والاستفسار منه عما يجري في البلد، فكانوا يدلفون اليه من بوابة خلفية بعيدة عن عيون الجواسيس ويتداولون مع اوضاع الشعب واحداثه. وكان رحمه الله رغم كل ذلك ذا ثقة وامل في مستقبل بلاده، فقد كان يعتقد “ان هذه حلقة من سلسلة كفاح طويل على الشعب ان يحتمله ويصطبر حتى يبلغ امانيه الوطنية“.
وهكذا استمر المدرس في عزلته وصمته لم يخرج على الناس بمقال او حديث حتى قامت الضجة حول كتاب “رسائل التعليقات” الذي اصدره المرحوم معروف الرصافي، فقد تسلم المدرس من مديرية الاوقاف العامة كتابها المرقم 2278 والمؤرخ 26/2/1944 والذي رجته فيه ان يبدي رأيه في كتاب الرصافي، فاستجاب المدرس وأرسل اليها بجوابه في 6/3/1944 وطلب الى المديرية المذكورة الا تنشره.
وفاته
لقد اصيب المدرس في آب 1944 بمرض الزمه الفراش، وقد حاول كثير من اصدقائه وتلاميذه حمله على مراجعة المستشفى ولكنه رحمه الله ابى ان يفعل خوفا من غدر الطبيب الانكليزي في المستشفى! وقبل ان تنسلخ ليلة الاثنين الرابع عشر من آب 1944 فاضت روح المدرس الى بارئها.. فطويت صفحة ناصعة نظيفة من الخلق الرضي والادب الجم والعلم الغزير..
وفي اليوم التالي خرجت قلة من اصدقاء المدرس وتلاميذه وعارفي فضله تشيعه الى مثواه الاخير في مقبرة الشيخ عبد القادر الكيلاني في الجانب الشرقي من بغداد.