اتفاقيّة الجزائر عام 1975 : جريمة تاريخية بحقّ العراق!

 

الدكتور سيار الجميل

 

اولا ؛

ما هي اتفاقية الجزائر بين إيران والعراق؟

لقد وُقِّعت عام 1975 لحل مشاكل الحدود بينهما وقادت تداعياتها الى حرب مأساوية دامية لثماني سنوات .. اليوم مر نصف قرن على ذكراها السوداء ، وقد اتفق البلدان على تطبيقها، ولكن ليس فقط لحل مشاكل الحدود ، بل لتلعب ايران بالعراق كما تريد ، ويغدو العراق فريسة منذ تلك اللحظة حتى اليوم ، فكلّ من يريد ان ينهش منها ، فالأمر مباح برا وبحرا ونهرا . لم يجرؤ اي زعيم عراقي أن يتصّرف على هواه قبل الذي فعله صدام حسين في توقيعه عليها، وبدل ان يقف ضدّه شعب العراق ويتصدّى لهذه الاتفاقية المجحفة ، راح يهتف له ويرقص في الشوارع .. وفي العام 1979- 1980، بدل أن يعترف بتلك الخطيئة التي ارتكبها على عهد قريبه احمد حسن البكر، راح يمزّق المعاهدة التي وقعّها بنفسه من دون حياء ومن دون أن يحاكمه أحد، ولم يعترف بمسؤوليته التاريخية عن فقدان شط العرب .. لقد كان توقيعه خنجرا مسموما نحر فيه صدام حسين العراق ، ويبدو انه شعر بالطعنة النجلاء ولكن بعد فوات الأوان .

 

ثانيا

حكاية مشابهة كانت نهايتها منطقية
عندما وقّع شاه ايران طهماسب الثاني اتفاقية مذلّة مع الاتراك العثمانيين ، فقد اعتبرت وقت ذاك جريمة عند الايرانيين ، وقد كلّفت الشاه المذكور عرشه الصفوي ، اذ خلعه نادر قولي خان ونصّب طفله الصغير شاها وبعد اشهر قتل الشاه الطفل عباس ميرزا وانتهى العهد الصفوي بلا رجعة بعد أن عمّر اكثر من 250 عاما .. ولكن عندما وقّع صدام حسين اتفاقية الجزائر المجحفة عام 1975 سكت الشعب العراقي ، وكأن لا جريمة تاريخية حدثت ، وقد قادت بعدئذ الى اندلاع حرب قاسية ، وضاع شط العرب ، وصولا الى 2015 حيث اعلنت إيران والعراق إعادة تطبيق اتفاقية الجزائر الموقعة عام 1975 اتُخذ القرار خلال الزيارة الرسمية للرئيس الإيراني حسن روحاني إلى العراق. وأتت الزيارة في وقتٍ تُعزل فيه طهران بسبب العقوبات الأمريكية، بدعمٍ خصوم ايران في الشرق الاوسط .

 

ثالثا؛

النزاعات الحدودية بين إيران والعراق وافتقاد الحكمة
مع سيطرة حزب البعث على العراق عام 1968، بدأ يطلق شعارات أقوى منه، وبقي يغالي في اعلامه وسياسته .. وفي 19 أبريل 1969، انسحبت إيران من اتفاقية عام 1937، التي تم توقيعها بين العراق وإيران ابان العهد الملكي لحل مشاكل الحدود، وهي ذكية كان من ورائها نوري السعيد ، وتحجّجت ايران بتدخل العراقيين بشأن القوارب الإيرانية في شط العرب في أبريل 1969، تبنّى العراق حملة اعلامية شرسة بعد سيطرة إيران على أربع جزر في الخليج العربي، ولم ينفع الهياج شيئا، فتدهورت العلاقات الدبلوماسية بين بغداد وطهران بشكل ملحوظ ، وشجع العراق عرب عربستان على التمرد ضد شاه إيران وحكومته. وقامت حكومةالعراق بطرد جميع الإيرانيين من العراق. ، فدعمت إيران الأكراد في الحرب العراقية الكردية بالمعدات العسكرية والتمويل. التقى الزعيم الملا مصطفى البارزاني بممثلين عن الحكومة الأمريكية لدعم الأكراد سرًا، مما أضعف الموقف العراقي الذي ازداد تعقيدًا مع اندلاع حرب أكتوبر. أصبح العراق الآن بحاجة إلى استرضاء إيران، خوفًا من أن تهاجمه من الشرق، بينما كان معظم القوات المسلحة العراقية تقاتل على الجبهة السورية عام 1973. هنا ، علينا ان نتأمل كيف افتقدت الحكمة السياسية والرؤية الاستراتيجية عند حكومات البعثيين منذ عودتهم للحكم ثانية ، واعتماد الصخب والتهريج والدعايات والشعارات بديلا عن الحكمة والتعقّل ومعالجة الامور بدقة لا أن يفوض شاب غير مدرك لموضوع معقد من تاريخ الحدود كي يغامر بالتوقيع على معاهدة مذلة . وكان على المسؤولين العراقيين معالجة المشكلة الكردية بكل حنكة وذكاء وهي مشكلة داخلية ، وهي ” مشكلة” كان لابد ان تجد حلا من قبل حكماء على غرار بقية المشاكل المستعصية في العالم .

 

 

رابعا؛

المفاوضات الخجولة واتفاقية الجزائر المذلة
في عام 1973 ، بدأ العراق مفاوضات مع إيران، على أمل أن يُنهي ذلك الدعم الإيراني للتمرد الكردي. في أواخر أبريل، عُقد اجتماع في جنيف بين وزيري خارجية البلدين. طالب الممثلون العراقيون بالالتزام بمعاهدة عام 1937، التي أبقت العراق مالكاً معظم شط العرب، لكن الممثلين الإيرانيين رفضوا. ففشلت المناقشات، لكن الاجتماعات استمرت بين البلدين. كان الشاه متشددًا تمامًا، وسعى للسيطرة على نصف شط العرب (أروند رود). وهو يتذكر قول نوري السعيد : ” سيضعف العراق ان استحوذت ايران على شط العرب “!
في مايو/أيار 1974، بدأ العراق وإيران عملية ترسيم حدود شط العرب (أروند رود) بينهما. وفي قمة جامعة الدول العربية عام 1974، جرت حوارات بين ممثلين عراقيين وايرانيين بوساطة الملك حسين، ملك الأردن. واستمرت متقطعة، إذ تردد العراق في التخلي عن الأراضي التي خُصصت له بموجب معاهدة عام 1937. وزادت إيران من دعمها للأكراد، مما جعل الجيش العراقي في مأزق. ونسقت اللعبة في اجتماعات قمة أوبك في 6 مارس/آذار 1975 في الجزائر، بحيث تمّ التوصل إلى اتفاق وتوقيعه بوساطة الرئيس الجزائري هواري بومدين ومن دون أية مفاوضات . لقد قسّمت الاتفاقية نهر شط العرب بالتساوي بين إيران والعراق، وشكلت لاحقًا أساسًا لمعاهدات ثنائية أخرى، بما في ذلك العلاقات الاقتصادية. وقد تغيّر مجرى النهر بشكل كبير منذ توقيعها لأول مرة، حيث ادّعى العراقيون أنهم فقدوا أراضيهم. وقع كل من صدام حسين والشاه محمد رضا بهلوي على المعاهدة التي تضمنت تنازل العراق بكل سهولة عن هذه المنطقة لإيران، بدل ان يرحب بالكرد ومنحهم ما يريدون والاصرار على ابقاء معاهدة 1937 الملكية وإنهاء العنف قرب شط العرب مع إيران. ولكن عُدِّلت الحدود بين البلدين لصالح إيران. وضعت اتفاقية الجزائر الحدود بين العراق وإيران في منتصف القناة الرئيسية لمجرى شط العرب (أروند رود)، المعروف عادةً باسم التالوك. وطُلب من العراق التخلي عن مطالبته بالمناطق العربية في غرب إيران. كما طُلب من الدولتين الالتزام بالحفاظ على رقابة وثيقة وفعالة على حدودهما المشتركة، وإنهاء أي تدخل في أراضي الأخرى. ولذلك، طُلب من إيران إنهاء أي دعم للأكراد. واتفق البلدان على حسن الجوار. إن انتهاك أي بند من الاتفاقية “يتعارض مع روح اتفاقية الجزائر”.

 

خامسا؛

ما الذي اثمرته اتفاقية الجزائر ؟
ان الفجيعة التي عمرها خمسة عقودٌ زمنية ذاق العراق فيها من الويلات والكوارث من دون ان يكشف العقلاء من المؤرخين والمختصين تأثير تلك الاتفاقية سيئة الصيت التي قمت بمقارنة بنودها مع 14 معاهدة سبقتها بصدد مشكلة الحدود العراقية الايرانية كانت قد وقعت جميعها بين الصفويين والعثمانيين والاتفاقيات التي عقدت في العهد الملكي 1921- 1958 ، فلم أجد أسوأ من اتفاقية الجزائر التي منحت ايران نصف شط العرب وجعلت ايران تمتد بنفوذها نحو جنوب العراق ، معتبرة عربستان ايرانية تحصيل حاصل .. وقايضت قضية داخلية للكرد العراقيين بالاتفاق مع طرف خارجي لانهاء ثورتهم ، ولكن ذلك منح القضية الكردية ابعادا لم يدركها حكام العراق وقت ذاك دوليا لغبائهم .. كما منحت الاتفاقية ايران نفوذا واسعا ليس بالنسبة للعراق، بل في منطقة الخليج العربي وارجاء الشرق الاوسط ،فما دلالات هذا التقارب على الديناميكيات الإقليمية والعالمية؟ لقد جادلتُ بأن دعم الولايات المتحدة للتمرد الكردي بين عامي 1972 و1975 لم يكن، كما جادل النقاد، مجرد بداية خاطئة. بل إن كيسنجر وضع أسس سياسة أمريكية تجاه الأكراد استؤنفت عام 1991 ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. وقد سعت الولايات المتحدة إلى تعاون أمريكي كردي يوازن بين “مكاسب الأكراد الكبيرة” و”خسارتهم الكبيرة”. وقد أوضحتُ كيف أن الشراكة الأمريكية الكردية، في مزيجها من التعاطف والاستراتيجية، تعكس استراتيجية اميركا في الشرق الاوسط .
شكّلت الاتفاقية أساسًا لمعاهدات ثنائية إضافية وُقِّعت في 13 يونيو/حزيران 1975 و 26 ديسمبر/كانون الأول 1975. وتتعلق النزاعات الإقليمية المعنية بشط العرب العراقي ومحافظة خوزستان الإيرانية، وكان العراق يرغب في التفاوض لإنهاء دعم إيران للتمرد الكردي العراقي المستمر آنذاك بعد هزيمته العسكرية في صراع شط العرب 1974- 1975 . في 17 سبتمبر/أيلول 1980 ، بعد الثورة الإيرانية بفترة وجيزة، ألغت الحكومة العراقية المعاهدة في ضوء سلسلة أخرى من الاشتباكات الحدودية بين البلدين. وفي 22 سبتمبر/أيلول 1980 ، أُلغيت المعاهدة تمامًا مع الغزو العراقي لإيران، الذي أشعل فتيل الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثماني سنوات.

اليوم، لا يزال الاحتكاك قائمًا على حدود البلدين رغم بقاء المعاهدة ملزمة بموجب القانون الدولي (بموجب قرار مجلس الأمن رقم 619)، ولا يزال ترسيم الحدود التفصيلي[1] ساري المفعول بحكم القانون منذ توقيعه عام 1975 وتصديقه عام 1976 من قِبل كل من إيران والعراق.

 

 

سادسا؛

الاتفاقيات
في 15 مارس/آذار 1975، التقى وزيرا الخارجية العراقي والإيراني مع الممثلين الجزائريين لتشكيل لجنة مشتركة لترسيم الحدود الجديدة. وفي 17 مارس/آذار، وقّع وزيرا الخارجية على البروتوكول بين البلدين. وينص البروتوكول على أن البلدين يتعهدان بإعادة ترسيم الحدود.في 13 يونيو/حزيران 1975، وُقّعت معاهدة أخرى في بغداد بين وزيري خارجية العراق وإيران. وقد أضافت هذه المعاهدة تفاصيل إلى الاتفاقيات المتعلقة بحل النزاعات وترسيم الحدود وأي تغييرات. تُعرف المعاهدة باسم “إيران-العراق: معاهدة الحدود الدولية وعلاقات حسن الجوار”.

 

سابعا؛

النتائج

رسمت اللجنة الإيرانية-العراقية رسميًا حدود البلدين في 26 ديسمبر/كانون الأول 1975، بتوقيع إعلان نوايا مشترك من الجانبين. انسحب الجيش الإيراني من المناطق الحدودية التي كان يحتلها، وأُغلقت الحدود، وتوقف دعم الأكراد. وفقدنا السيطرة على شط العرب والخليج معا .. وبأت الأطماع تلاحق العراق الذي وجد نفسه تحت بطش رئيس دولة يتصّرف على هواه في توقيع معاهدان او اشعال حروب ..
انسحب العراق من اتفاقية الجزائر في 17 سبتمبر/أيلول 1980. كانت الاتفاقية قد فُرضت على البلاد، وأدت الفوضى في إيران بعد الثورة الإيرانية إلى اعتقاد العراقيين بإمكانية التراجع عن هذه التغييرات. أدى ذلك إلى واحدة من أطول حروب القرن العشرين، وهي الحرب العراقية الإيرانية، التي استمرت من عام 1980 إلى عام 1988. وانتهت الحرب وفقًا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 619، وأعاد كلا الطرفين إلى اتفاقية الجزائر لعام 1975.

 

وثامنا
واخيرا

وأخيرا ، أقول : أنه مهما بلغت التحديات وزادت المخاطر ، فلا يمكنك التفريط بأي شبر من ارضك ، وقد يخرج قائل ويسأل : ولكن اذا هدد نظام الحكم .. اقول : وليسقط نظام الحكم والدولة ولكن لا تمنح ارضك ونهرك وبحرك الى أي كائن في الوجود .. فكيف اذا اندفعت برعونة وغباء لتنعم بترابك على الاخرين ، او تبيع نهرك بثمن بخس ، او تتخلى عن بحرك ومياهك .. تكون قد فقدت غيرتك وشرفك لا غير .

المراجع:

Sayyar Al-Jamil, “ Historical Problems between Iraq and Iran “, in Arab Iranian Relations, ( London: British Academic Press ,1998).
Krash, Ephriam; Rautsi, Inari (1991). Saddam Hussein: A Political Biography. Free Press. pp. 67–75.
Abdulghani, J. M. (1984). Iraq and Iran: The Years of Crisis. London. p. 142.
Report of United States embassy in Baghdad to the State Department, 16 May 1973
Report of United States embassy in Tehran to the State Department, 9 June 1973.
F. Gregory Gause, III (2009-11-19). The International Relations of the Persian Gulf. Cambridge University Press. pp. 36–37.

توفيق التونجي, [5/14/2025 5:46 PM]

قد يعجبك ايضا