د. ابراهيم احمد سمو
أحيانًا أستيقظ ولا أعرف أين أنا: هل ما زلت على فراش النوم، متأرجحًا بين النهوض والعودة إلى سبات جديد، أم أنني على وقع عزف جميل ينبعث من عنوان يلفت الانتباه بفكرة تتجدد فيها الحياة؟ إنها لحظة عجيبة؛ حيث يختلط الواقع بالحلم، ويصبح الفاصل بينهما هشًّا، كأنني أعيش في حالة وسطى لا أميز فيها بين اليقظة والنوم.
تبدأ عيناي بالتحرك ببطء، أبحث عن معالم المكان من حولي، فأرى كأس الماء الذي يرافقني دائمًا على منضدة صغيرة قرب السرير. لقد تعلمت بعد أحلام مزعجة وكوابيس مفزعة أن أنهض على الفور عند الاستيقاظ، وأتناول رشفة من الماء، كأنما أطفئ بها لهيب الأفكار المتشابكة التي ظلت تطاردني في المنام. إنها عادة أصبحت جزءًا من طقوسي الصباحية؛ فالماء هنا ليس مجرد ارتواء، بل هو انبعاث جديد، يبعث الطمأنينة في النفس ويعيد التوازن للعقل.
في تلك اللحظة، لا أفكر في العمر الذي يتقدم، ولا في الزمن الذي يمضي مسرعًا؛ إنما أفكر في القلم الذي ينتظر مني أن أخرج فكرة جديدة، أن أكسر بها النمط القديم، أن أضع جملة مبتكرة تفتح بابًا جديدًا للتفكير. إن شغفي بالكتابة لا ينفصل عن ذلك الشعور العميق بالمسؤولية تجاه الأفكار التي تختمر في ذهني. فكلما بدأت فكرة تتشكل، تتداخل معها مشاعر مختلفة، بين الأمل في التعبير عنها بأسلوب مميز وبين الخوف من ألا أفيها حقها.
أجلس في هدوء الصباح، أو ربما في سكون المساء، وأحتسي كوبًا من الشاي الذي يزيد من تركيزي، وكأنه شريك آخر في عملية الإبداع. في تلك اللحظة، تتدفق الأفكار كجدول رقراق، تملأ عقلي بصور ومعانٍ متنوعة. وأبدأ في البحث عن الكلمات التي تليق بها، تلك التي تحمل روح النص وتعبر عن عمقه.
لكن الألم لا يفارقني، وكأنه جزء من طقوس الكتابة. تأقلمت مع الأوجاع التي أصبحت رفيقة دربي؛ آلام الرقبة والإصبع، ولا سيما الإبهام الذي يرهقني مع كل نقرة على الحروف عبر هذه الشاشة الصغيرة. من يصدق أن كل هذه المقالات تُكتب من خلال هذا الجهاز المحمول؟ جهاز صغير لا تتجاوز شاشته حجم الكف، لكنه يحمل أفكاري، يسجل معاناتي، ويشارك لحظات الإلهام والتأمل.
في كل مرة أبدأ فيها بكتابة مقال جديد، أتساءل كيف يمكن لهذه المساحة الضيقة أن تستوعب كل تلك المشاعر والأفكار. أحيانًا أشعر بأنني أختصر العالم في بضع كلمات، وأحيانًا أخرى تتسع الكلمات لتضم معاني أكبر من قدرتها على التعبير. لكنني لا أستسلم؛ فالألم لم يكن يومًا عائقًا أمام الرغبة في الكتابة.
لقد اعتدت أن أكتب وسط هذا التضاد: بين الألم والأمل، بين اليقظة والحلم. كأن الكتابة أصبحت معركة لا تُحسم إلا بالكلمات، حيث أنتصر على أوجاعي حين أرى النص ينبض بالحياة. إنها تجربة شاقة أحيانًا، لكنها تمنحني شعورًا بالاكتمال. ففي كل نص جديد، أجد جزءًا من ذاتي يتشكل، يتطور، وينمو مع كل فكرة جديدة أضعها على الورق.
إنني أستمد قوتي من تلك اللحظات الصغيرة التي أعيشها مع نفسي، عندما يكون العالم من حولي في سكون، وأنا وحدي أمام الشاشة. أكتب لأتجاوز اللحظة، لأخلق واقعًا يتفوق على الألم، وأعبر إلى مساحة أوسع من الحرية الفكرية.
لا أعرف كم مقالًا كتبت في هذا السياق، ربما تجاوزت الألف، وربما أكثر. لكن في كل مرة أبدأ من جديد، أجد نفسي في مواجهة نفس السؤال: هل يمكنني أن أبدع أكثر؟ هل أستطيع أن أقدم فكرة مختلفة؟ ورغم هذه التساؤلات، أواصل الكتابة، لأنني ببساطة لا أستطيع التوقف.
إنني أكتب لأنني أبحث عن المعنى وسط فوضى الأفكار. أكتب لأحارب الرتابة، لأمنح نفسي فرصة للانطلاق خارج حدود الجسد المنهك. الكتابة ليست مجرد هواية أو تسلية، إنها حوار مع الذات، واستكشاف للوجود، وتحرر من قيود الواقع.
قد يظن البعض أن الكتابة عبر شاشة الهاتف أمر بسيط، لكنه في الحقيقة اختبار لصبر الكاتب وقدرته على استنطاق الأفكار في فضاء ضيق. ومع ذلك، أجد في هذا التحدي نوعًا من المتعة، كأنني أثبت لنفسي أن الإبداع لا تحده مساحة، ولا تقيده ظروف.
في النهاية، لا أطلب من الكتابة إلا أن تكون مرآة لروحي، تعكس ما في داخلي من تناقضات وتطلعات. وإن كان الألم حاضرًا، فهو جزء من الرحلة، يضيف إلى النص نكهة الصدق، ويمنحه عمقًا يتجاوز سطح الحروف.
أدرك تمامًا أنني لست الوحيد الذي يكتب وسط الألم، لكنني أؤمن أن الكتابة، مهما كانت مرهقة، هي وسيلة للبقاء، للصمود، وللإفصاح عن تلك المشاعر التي تظل حبيسة في أعماقنا. إنها صيغة للتعبير، ونافذة للتنفس، ولو كان ذلك عبر شاشة صغيرة لا تتسع إلا لحروف قليلة، لكنها قادرة على حمل أفكار بحجم الحياة