في العام 2003،وبالطبعة العربية، صدر كتاب ( رواية بعض الذي كان) بعنوان ( المسامير) للاستاذ كاظم عريبي العبود، وقد اخترنا مقطعاً منه كعنوان، وقد ورد في جزءٍ منه:
– ” لم يحصل على شهادة كلية الحقوق من الجامعة المستنصرية. الأخلاق الرفيعة، وحسن الاستماع والهدوء في الرد والحفاوة بالآخرين كانت صفات محبوبة عند سعيد، ولذلك فقد اتسعت دائرة معارفه في السليمانية وأصبح شخصاً معروفاً في المدينة يحظى بالإحترام وحُسن الاستقبال في الأماكن العامة، كما ان وكيل المحافظ أختصه بمنزلة تقديرية لاقتراحاته في تطوير العمل الإداري خاصة تأسيس قسم خاص بشؤون المواطنين وتوجيههم لحل مشاكلهم والاستماع إلى شكاواهم فتولى إدارة هذا القسم إضافة إلى عمله، الأمر الذي جعله قريباً من الناس. والكورد المعروفون بكرمهم وحفاوتهم وبساطتهم، أعتبروا سعيداً واحداً منهم وأطلقوا عليه ( كاكه سعيد) فكان ضيفاً إينما حلّ وقلّما يقبض منه البائعون ثمن مشترياته اليومية رغم اعتراضاته، حتى أوكل هذا الموضوع إلى أحد مساعديه لشراء ما يحتاجه لكي لا يتعرض إلى الحرج. في حفلات العرس والختان كان كاكه سعيد في مقدمة المدعويين، كما كان حضوره دائماً في الفواتح والتعازي والمواليد والأذكار، انقضت السنة الثانية على سعيد في مدينة السليمانية ولم يغادرها إلا في عيدي الفطر والأضحى الماضيين لزيارة عائلته، فلقد كانت هذه المدينة متنفساً له عن الضغط وأجواء القلق والتعامل القسري في بغداد. وعلى الرغم من خضوع المحافظة إلى سيطرة شديدة من رجال الأمن والمخابرات، والمقر الذي يعمل فيه مشحون بالمراقبة، إلا ان هناك عاملاً مشتركاً يربط الجميع، فالكل هنا يعتبر نفسه منبوذاً من المركز وان وجوده لا شك في انه كان عقوبة أو إنذاراً أو إمتحاناً عسيراً، لذلك فإن نوعاً من الألفة والتسامح يربط بين الكثير منهم، وربما يكون السلوك الكوردي المتبسط عاملاً أخر له تأثيره على هؤلاء القادمين من المنطقة الوسطى أو الجنوبية. كانوا يحتاطون من كل قادم جديد حتى يعرفوا معدنه، كما يقول طه عبد العزيز السامرائي الذي يعمل مأموراً لمركز شرطة الأحداث، فإذا اطمأنوا إليه تــــــزول ( الكلفة) بين الجميع ويصبح واحدا منهم يقضي واجبه ويذهب إلى مضجعه عند غروب الشمس. صابر آغا، أحد وجهاء مدينة السليمانية توجه بنفسه إلى مقر المحافظة وقابل الكثير من كبار الموظفين، إلا أن مقابلته مع كاكه سعيد استغرقت وقتاً أطول وذلك للمعرفة والصداقة الوطيدة بين الإثنين. كان دافع الزيارة الشخصية هو دعوة الجميع لحضور حفل زواج أبنته الكبرى سورية من أبنة خالها محمود، وقد ألّح صابر آغا على حضور كاكه سعيد وتوسّل إليه بان لا يكلّف نفسه بجلب أية هدية لأن حضوره أكبر شرف له، فأكد سعيد حضوره. ابتدأ الحفل في الساعة الواحدة بعد ظهر يوم الخميس فتوجه سعيد من المحافظة إلى البستان الواقع على مشارف المدينة الذي تجري فيه مراسم الزواج. وجد سعيد منظراً خلاباً في ذلك المكان الأخضر المتلوّن بأطياف قوس قزح تعكسها ملابس الفتيات والنساء والأزياء الكوردية التي يرتديها الرجال. الطبول والمزامير تتوسط عدة حلقات من الرقص والدبكات الجماعية التي يشترك فيها الرجال مع النساء بينما تتحلق الصبايا والصبيان والأطفال في دوائر أخرى، كؤوس اللبن والفواكه وخبز الصاج تَحِفُّ بصواني مليئة بالرز المُغطى بلحم الخروف المشوي. في حين ينهمك عدد من الرجال والنساء في طبخ واحضار المزيد من الطعام في الجانب الأيسر من الحفل. يُحيط بذلك كله صف دائري من الكراسي والأرائك المُغطاة بسجاجيد إيرانية ومحلية ذات ألوان خلابة وتقاطعات فنية تدل على أرث فني متميز. نهض صابر آغا وأبنه صبري لاستقبال سعيد وقاداه للجلوس على الأريكة التي يجلس عليها صبري واحد اصدقائه. سادت البهجة وروح الفرح نفس سعيد، لما يستمتع به من هذه المناظر والرقصات والتسامي في شعورٍ طاغ من السعادة والحبور. وفكر في بغداد والحفلات التي تقام فيها وحيث يتوجب عزف وغناء العديد من اناشيد التمجيد والتصفيق حتى يستطيع الحاضرون، في النهاية الاستمتاع ببعض الاغاني العاطفية او المقامات والابوذيات. الأصوات الرخيمة، هنا تنقل متلقيها إلى أجواء بعيدة عن الأرض ودبكات الصبايا والفتيات اللواتي توردت خدودهن نتيجة الحركات المتناسقة والفرح المستبد وربما الخفر والحياء تجعل المرء يحلق في عالم أخر لم يعرفه من قبل. كان صبري يتحدث إلى سعيد ويشرح له معاني الدبكات والرقصات، وبينما كان يمعن النظر في البعض من الفتيات اللواتي يمرن أمامه، التقت عيناه بواحدة منهن فأبتسمت له وردّ على إبتسامتها، فلاحظ صبري ذلك فقال له: ( إنها أختي صبرية). شعر سعيد بالخجل وأراد ان يعتذر فقال له صبري: ( لا تخجل كاكه سعيد، إحنه في عرس، وهذه مناسبة سعيدة يتعرف فيها الكثير من الشباب على الفتيات وغالباً ما تكون القسمة والنصيب قد بدأت من هنا). أحسّ سعيد بالإرتياح، إلا أن صبري واصل القول: ( أنا مثلاً تعرفت على زوجتي في حفل زواج إبن خالتي الآخر وصارت من نصيبي). ردّ سعید: ( مبروك وان شاء الله تشوف كل الخير معاها). مسك صبري يد سعيد وسحبه ليقوم معه وقال له: ( تعال أرقص معنا دبكة). دخل الاثنان فى الحلقة التي توجد فيها صبرية ومسكها أخوها من اليد اليسرى بينما مسكها سعيد من اليد الأخرى وحاولا تعليمه الدبكة. لم تكن صبرية تعرف إلا كلمات قليلة من العربية، بينما كان سعيد يعرف أكثر منها كلمات كوردية، واخذت تعلمه ايقاعات راقصة ويتبادلان كلمات لا يفهمها أحدهما من الآخر، ولكن حين تحدث معه وجهاً لوجه والتقت عيناها بعينيه تحدثا بلغة العالم المشتركة. ما فهمه سعيد هو الضغط على اليد الرقيقة التي يمسك بها، بينما ضغطت هي الأخرى على يده أيضاً واستمرا أكثر من دقيقتين، توقفا فيهما عن الدبك ولكن عينيهما ظلتا تحدقان أحداهما بالأخرى. عندما عاد سعيد إلى مجلسه وجد صبري وصديقه ينظران إليه بطريقة أكثر وداً ودعواه إلى الوليمة. لم تفارق عينا سعيد الذي تجاوز الخامسة والثلاثين صبرية، إينما ذهبت أو حلّت.. وبينما كان صبري يقتطع له قطعة من فخذ الخروف رأى طاسة من اللبن تقدمها له أرق يد رآها في حياته، يد صبرية ذات الأربعة والعشرين ربيعاً. في الخميس التالي ذهب سعيد لزيارة صابر آغا في متجره وسط سوق السليمانية الكبير وأخبره ان والدته واخته ستزوران السليمانية في الأسبوع المقبل وإذا كان بالإمكان زيارة عائلته يوم الخميس القادم. نظر صابر آغا إلى وجه سعيد، فإرتبك هذا ولكن الرجل الكبير نهض من مقعده وتوجه إلى صابر فعانقه وقال له: ( كاكه سعید مو بس بيتي مفتوح لك ولعائلتك فأنا متاكد ان كل السليمانية مفتوحة أبوابها لحضراتكم)، تعانقا .. وظل سعيد يحلم بإمه واخته ورأيهما في صبرية. في اليوم المقرر كان الجميع في غرفة كبيرة مع عائلة صابر آغا، دخلت صبرية تحمل صينية فيها كؤوس مليئة بعصير العنب، ما ان شاهدتها وداد شقيقة سعيد وهي متوجهة إليهم لتقديم العصير، لم تستطع صبراً لتقول إلى أخيها: ( مو حرام عليك خويه تظل أسبوعين تنتظر رأينا بفص الألماس هذه). وقامت فأخذت منها الصينية وسط أستغراب الكثيرين ووضعتها على المنضدة وأحتضنت الفتاة وقبلتها من وجنتيها وهلهلت هلهولة طويلة وتزوجا في حفل كبير أثار فعلا الغيرة في نفوس جميع أصحاب سعيد في المحافظة. رغم السعادة التي عاشها سعيد مع صبرية خلال الأشهر السبعة الأولى، والاستقرار وتبادل الحب الذي أثمر عن حمل صبرية بعد ثلاثة أشهر من زواجها، إلا أن بعض المنغصات أخذت تظهر في الدائرة ضد ارادة سعيد. وكان أولها ان مدير أمن السليمانية زار سعيد في مكتبه وطلب منه التعاون في حالة شعوره بتحركات مريبة بين أنسابه وأصدقائهم ليخبر عنها على الفور، وتحجج بالحفاظ على امن الجميع من اية محاولة قد تتعرض لها المحافظة. اشمأز أحمد من هذا الطلب ولكن هذه المحاولات ظلت تلاحقه حين أضطر سعيد ان يلتزم داره بعد الدوام ويتملص من كل الدعوات الموجهة إليه حتى من زيارة عائلة زوجته بحجة الحفاظ على حملها وعدم تعرضها للتعب. وعندما أنجبت صبرية وليدها الأول أطلق عليه سعيد أسم والده محمد الذي كان قد توفي قبل شهرين من ولادة الحفيد، وبعد مرور أربعين يوماً على الولادة طلب أحمد إجازة لزيارة عائلته في بغداد واثناء وجوده هناك نقل السجل المدني لزوجته إلى صفحة عائلته في بغداد، كما سجل أبنه هناك. حين عاد سعيد إلى السليمانية استدعاه وكيل المحافظ الذي كان قد عرف بنقل السجل المدني فقال لسعيد: ( أسمع وليدي سعيد، المحافظة أصبحت تعتمد كثيراً عليك وعليه فقد تقرر تمليك دار عبدالله آغا المقابلة للمحافظة بعد ان هجرها هذا وهرب إلى الخارج، وهناك قرار من مجلس قيادة الثورة يخولني تمليكها مقابل ثمن رمزي إلى الشخص المناسب). أستغرب أحمد هذا العرض، ولكن وكيل المحافظ أستمر: ( وفي الحقيقة لم أجد أحداً يستحقها أحسن منك ولكن بشرط واحد بسيط). نظر أحمد إلى رئيسه وهو عارف بهذا الشرط ولكنه لم يرد بشيء، مما جعل وكيل المحافظ يكمل كلامه: ( وهذا الشرط هو ان تنقل سجلك المدني من بغداد إلى السليمانية). طبعاً لم يفاجأ سعيد بذلك…………”.