د. ابراهيم احمد سمو
لكل إنسان مرحلة يمر بها، قد تتغير خلالها أولوياته وأفكاره، وربما ينسى بعض ما مر به مع تقادم الزمن. إلا أن هذا لا ينطبق على أهل السياسة وأصحاب القلم والإبداع؛ فهؤلاء تُسجل بصماتهم في صفحات التاريخ، لتبقى شاهدة على أفعالهم وإنجازاتهم، سواء كانت سياسية أو ثقافية.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: أي سياسي يمكنه أن يظهر في مرحلة ما دون أن يترك أثرًا ثوريًا أو ثقافيًا يبقى حاضرًا في الذاكرة الجمعية؟ هل يمكن لسياسي أن يعبر مرحلة زمنية دون أن يساهم في فعل ثوري أو كتابة فكرية توثّق إنجازاته؟
السياسي الحقيقي لا يكتفي بالظهور في الساحة السياسية دون أن يترك أثرًا يُخلد اسمه. الأثر هنا لا يعني مجرد الانخراط في المعارك السياسية أو المناصب الحكومية، بل يتجلى في تسجيل المواقف، وترك بصمة فكرية أو ثقافية تعكس عمق رؤيته وتجربته.
على النقيض، نجد أن الكاتب أو المبدع – سواء كان أديبًا، فنانًا، موسيقارًا، أو مغنيًا – يبقى صوته حاضرًا عبر الزمن، إذ تمتلك أعماله القدرة على تجاوز القيود الزمنية والمكانية. الكاتب حين يخط بقلمه فكرة نابضة من وجدانه، أو الفنان حين يصدح بصوته معبرًا عن آلام الناس وأفراحهم، يدخلون التاريخ من أوسع أبوابه، لا من أجل تأويل أقوال الآخرين، بل لأن نتاجهم يحمل في طياته صدق المشاعر وعمق التجربة الإنسانية.
المرحلة والسياسي: متى ينتهي الدور؟
الإنسان يعيش مراحل متعددة في حياته، ولكل مرحلة دور يقدمه وموقع يشغله. قد يبدأ السياسي مسيرته بقوة وتأثير، فيكون صوتًا مدويًا، وقياديًا متمرسًا. لكن مع مرور السنوات، قد تتبدل الأحوال، فيبقى اسمه عنوانًا لفترة مضت دون أن يستطيع مواكبة الواقع الجديد. هنا يكمن التحدي: هل يمكن للسياسي أن يتقبل انتهاء مرحلته بواقعية، أم يظل يعيش في دائرة مغلقة، رافضًا الاعتراف بأن الزمن قد تجاوزه؟
على النقيض، نجد بعض السياسيين ممن يملكون القدرة على التكيف مع المراحل المختلفة. فهم يدركون أن القيادة ليست حكرًا أبديًا، وأن التطور الثقافي والمدني يتطلب إدراكًا لواقع جديد يفرض نفسه. هؤلاء لا يتشبثون بمواقعهم، بل يساهمون في إثراء الساحة بآرائهم وخبراتهم دون إصرار على البقاء في الصدارة.
التجديد في مقابل الجمود
المشكلة الكبرى تكمن في أولئك الذين طال بهم الزمن في القيادة دون أن يحققوا أي تطور يذكر. هؤلاء، بدلًا من أن يجددوا فكرهم وأدواتهم، يظلون في دائرة مغلقة، يلقون باللوم على الزمن والجيل الجديد، غير مدركين أن مسؤولية الجمود تقع على عاتقهم لا على الزمن.
في المقابل، يتميز بعض القادة بقدرتهم على الانخراط في مسؤوليات مختلفة دون التقوقع في قالب واحد. فتارة يتحملون مسؤولية حكومية، وتارة أخرى يسهمون داخل الحزب أو في مؤسسات المجتمع المدني، مما يجعلهم جزءًا من عملية التغيير لا حجر عثرة أمامها.
إرث المرحلة: بين الأثر والانغلاق
إن المرحلة الزمنية ليست مجرد فترة عابرة، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الفرد على ترك بصمة. السياسي الناجح هو من يستطيع تجديد ذاته وفكره وفقًا لمتغيرات الواقع، دون أن يسجن نفسه في مرحلة ماضية. أما المبدع، فهو من يكتب بروح حية تبقى خالدة، لا مجرد تسجيل للحظات آنية.
هكذا، بين السياسي الذي يرى في المرحلة قيدًا يرفض تجاوزه، وبين المبدع الذي يرى فيها محطة للإبداع المتجدد، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن تظل المرحلة مجرد ذكرى عابرة، أم تتحول إلى متحف حيّ يروي حكاية رجل تجاوز الزمن؟