امكانية القضاء من خلق احكام قانونية

د. رزكار حمه رحيم

ما هي مكانة القضاء بين مصادر القاعدة القانونية ، فبات التساؤل يدور بينهم ، هل يعتبر القضاء مصدراً رسمياً لقواعد القانون ، ام انه مصدراً احتياطياً. وتبعاً لذلك تنازعت هذه المسألة مدرستين ،اولهما المدرسة الانكلوسكسونيه ، حيث تعتبره من المصادر الرسمية المباشرة ( وفقاً لنظام السوابق القضائية ) والتي تعطي لهذه الاخيرة قوة القانون ، وثانيهما المدرسة اللاتينية ، حيث تعد القضاء من المصادر غير الرسمية او غير المباشرة ( تفسيري ) ، وهو ماسارت عليه اغلب التشريعات العربية من هنا نريد ان نلحظ مدى امكانية سحب وتعميم هذا الاستخلاص على قواعد القانون الدولي الخاص ، وبكلمة اخرى هل ان القضاء في ظل هذا القانون يشغل نفس المكانة في باقي فروع القانون ، ام الأجابة تختلف من قانون لأخر وفقاً لطبيعة كل قانون.
ولاتبدو الأجابة يسيرة على هذا التساؤل ، وانما يستلزم الامر منا البحث عن طبيعة وتركيبة هذا القانون المعقد.
فالعلاقات القانونية موضوع هذا القانون ، تتسم بالتنوع في عناصرها ، فبالضرورة ان احد اطرافها ينتمي الى نظام قانوني اجنبي ، بمعنى اوسع ينتمي الى منظومة ثقافية قانونية تختلف بصورة كلية أو جزئية عن المنظومة الثقافية للمشرع الوطني ، أقول ان هذا التنوع تطلب من القاضي هنا ان يتدخل بما له من سلطة لتحقيق حالة التعايش القانوني بين نظامه القانوني الوطني وذلك النظام الاجنبي ، وهو ان حقق ذلك انما يكون قد عمل على تحقيق احد اهم اهداف القانون الدولي الخاص ، الا وهو التناسق والتعايش بين القوانين وبما يخدم العلاقة واطرافها ويضمن العدالة المادية ، هذا التنوع وتلك الحيوية الناتجة عنه ، خلقت نوعاً من الفعالية والحيوية في العمل القضائي ، وصولاً الى الابتكار والابداع( الاجتهاد)
فمنذ ولادة هذا القانون ، كان للقضاء دور حيوي واكثر نمواً ولم ينحصر دوره فقط في التطبيق والتفسير ، وانما حاول منذ البدء ان يمد نشاطه الى اكثر من هذا الحيز القانوني وأخذ يوسع من مفهوم التطبيق ، بمعنى انه يمد نطاق عمله الى خلق وابتكار نظريات قانونية في مجال القانون الدولي الخاص من مثل نظرية( الجهل المغتفر) وكذلك ( الاعتداد بالجنسية الفعلية ) وكذلك ( قانون الارادة- الاحالة )
ومما ساعد على نمو هذا الدور، هو عدم وجود تقنين متكامل تجتمع فيه النصوص، فأغلب قواعد هذا القانون هي عبارة عن مبادئ ارساها وطورها القضاء ، ومن ثم تلقفها المشرع ليعيد صياغتها ويعطيها اطاراً تشريعياً ولعل الخشية في اعتقادنا من عدم ولوج المشرع هذا المجال ، ناجم من الاعتقاد من عدم الالمام واحتواء كل العلاقات ذات العنصر الاجنبي في نصوص قانونية ، بسبب طبيعة الموضوعات التي يتناولها هذا القانون ، فضلاً عن التسارع في نمو وتطور علاقات هذا القانون ،بسبب تطور الوسائل ، مما تولد لدى المشرع هاجس ، بأنه غير قادر على مواكبة هذا التطور مفضلاً ترك هذا المجال مفتوحاً لصالح القضاء ، على انه يكتفي بإيراد بعض الموجهات العامة .
ويذهب البعضالى ان هذا الدور جاء نتيجة مشكلة اسماها البعض بـ ( النقص في التشريع ) فكما هو معروف ان وظيفة القاضي الاساسية هي الحكم بالعدل بين شخصين متنازعين طبقاً للقانون ، فالقاضي الفرد وكذلك القضاء في مجموعة يقوم اساساً بتطبيق القانون لا بخلق القانون ولم يكن من المتصور اثارة مسألة خلق القضاء للقانون لو ان التشريع كان كاملاً لايشوبه أي نقص، فلو افترضنا كمال التشريع ، بمعنى ان التشريع يحتوي على حل لكل نزاع يعرض امام القضاء ، لما كان هناك مبرر لخلق قواعد قانونية جديدة بواسطة القضاء ، بل لاقتصر القضاء على مباشرة وظيفته الاصلية وهي تطبيق القواعد على المنازعات الخاصة التي تعرض امامه ، وهي تكفي بكمالها لمواجهة المنازعات المتصورة وغير المتناهية .
ويذهب البعض الى ان القاضي وهو يحاول ان يكمل النقص في القانون لايخلق قاعدة قانونية عامة ، ولكنه يخلق حلاً عادلاً لنزاع ليس له حل في قواعد القانون الوضعي ، ولكن القاضي ، وهو يخلق هذا الحل انما يستوحيه من قاعدة عامة اكتشفها عن طريق الرجوع الى جوهر القانون ، وهو العدل او عن طريق الرجوع الى المبادئ العامة للقانون النابعة عن الفكرة العامة للوجود السائدة في الدولة التي يباشر فيها القاضي وظيفته ، وتكرار الاخذ بهذا الحل في المنازعات المتشابهة من شأنه ان يخلق قاعدة قانونية قضائية ، هي القاعدة التي اكتشفها وطبقها الحكم الاول.
هذه الحركية التي صاحبت عملية النقص في التشريع ، والحركية الموازية لها ، تمخض عنها ابتداع وخلق للحلول من قبل القضاء ، هذا الواقع اجبرا المشرع بضرورة تلقف هذه الحلول والتسليم بها واعادة صياغتها بنصوص تشريعية ، وهذا التلقف والتسليم من قبل المشرع انما هو يدلل او يشير الى قدرة القضاء في لعب هذا الدور لذلك نستطيع القول ان القضاء مصدراً اصلياً وليس احتياطياً ، كما يذهب الى ذلك البعض ، فاكمال النقص كما مر بنا بطبيعته عمل غير احتياطي ، وهو لايختلف في ذلك شيئاً عن تعديل القانون ، فأذا نظرنا الى التشريع وهو ابرز المصادر الاصلية للقانون وجدناه يقوم اما بتعديل القانون القائم او الغائه او اكماله ، فالتشريع عندما يصدر غالباً يسد نقصاً في القانون ، وهو عمل احتياطي وبالمثل فأن القضاء عندما يخلق قاعدة جديدة تسد نقصاً في القانون لايقوم بذلك بعمل احتياطي ، وانما يقوم بعمل اصلي ، والذي يقوم به أي مصدر اخر من مصادر القانون.

قد يعجبك ايضا