“الى كل روح بريئة”

 

 

اعداد: عدنان رحمن

اصدار: 29- 4- 2025

 

                 للاستاذ سالم بخشي خدادا صدر كتاب بعنوان ( قال الشيخ!)، الذي كان مجموعة قصصية، والذي صدر من مجموعة تسمى ( سرد) وبالرقم 8 عن دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد في العام 2011، وقد اورد على لسان الشيخ الكثير، اخترنا لكم مقطعا من الاهداء الموجود في الكتاب كعنوان، واوردناه- أي الاهداء- مع المتن مع فقرات مختارة وكالتالي:

– ” الإهداء: إلى كل روح بريئة اغتصبت في بلادي ظلماً وبهتاناً سواء أخرجت هذه الروح من جندي بائس احترق في جحيم حرب لعينة بالنيابة، وليس له فيها ناقة أوجمل أم فارقت جسد سجينة مظلومة عذراء، وقد اغتصبت في سرداب بعثي أو غادرت أما في الشمال وقد تيبست فوق طفلها بضربة كيماوية، وهي تدس ثديها في فم رضيعها وربما انتزعت من صبي مذعور قد طمر مع أفراد عائلته في حفرة عميقة، ويمينه تقبض على كرات زجاجية في جيبه ويساره تتشبث بأذيال أمه المذهولة في واحدة من مقابرنا الجماعية في الجنوب أو الذين تناثرت أرواحهم مع أجسادهم الطاهرة وقد تحولوا بطرفة عين إلى أشلاء من اللحم المتفحم في الأسواق والمدارس والجوامع و… في طول بلادي وعرضها. أو الذين ماتوا في…. إلى كل الأرواح الأخرى التي زهقت باطلاً، بطرق بشعة أخرى، لا عد لها ولا حصر… أهدي باكورة أعمالي، منحنياً ومتواضعاً إلى تضحياتهم العظيمة وهي أقل ما يهدى!.

                                                                       الكاتب

سالم بخشي خداداد المندلاوي

                                                                       بغداد / ٥ / ٦ / ٢٠٠٩

في مقهى ( القهوة البرازيلية)

          لم يكن أمامي إلا يوم واحد لكي أقرر. يوم واحد يفصلني عن كل ما أحلم به شقة فاخرة سيارة فارهة زوجة جميلة مشاريع تجارية مربحة لم أكن لأحلم بها يوماً ما!. لكن، ربما عليّ أولاً أن أتخلص من الحصى الذي بات يملأ كليتي تعرضني في بعض المرات لآلام عظيمة، لم أعد أقوى على تحملها إلا بشق لأنفس!. وقبل هذا الأمر وذاك، عليّ أن أسدد ما بذمتي من ديون لصديقي المقرب (رائد) أعتقد إني قد أثقلت كاهله بالرغم من عدم مطالبته بحقه عليّ أن لا أستغل سكوته طويلاً، وأتناسى ما بذمتي له بعد الآن. سأسدد كل ديوني. تباً لقد نسيت بالفعل شيئاً أهم من كل ذلك. إنه الإنذار، الإنذار الذي وصلني بالأمس الذي يقضي بإخلاء الشقة التي أسكنها خلال أسبوع واحد من تاريخ أصداره، ما لم أدفع ما بذمتي من مبالغ مستحقة لصاحب الشقة عن إيجار الأشهر الثلاثة الفائتة. أين أذهب ومن سيؤويني شقيقي ( جلال)، لا أعتقد بأني سأسمح لنفسي بأن أكون عالة عليه مجدداً. ومنزله ليس من السعة لإيواء شقيقه بعدما رُزِقَ بطفل سابع. فضلا عن سلاطة لسان زوجته. كيف أسمح لنفسي بأن أتلاسن معها من جديد وأفقد هيبتي واحترامي. أيها الأخرق اللعين لِمَ هذا الضياع. لِمَ هذه الحيرة وأنت تملك مصباح علاء الدين وتستطيع خلال وقت قياسي التخلص من جميع هذه الكوابيس، وأن تصبح سيد الكون وأكثر الناس ثراء وأحسنهم حالاً ولو أنك استعملت هذا المصباح منذ أن حصلت عليه، لأصبح حالك يضاهي حال من حملوه واستغلوه جيداً من قبل. ولعشت مرتاحاً سعيداً طوال حياتك دون أن تستلف ديناراً واحداً، بل ربما كنت أنت الذي تقرض الجميع من أموالك العظيمة؟!. إذن، لم هذا التردد والوجل؟. ما الذي يحول بيني وبين هذا الفرج، تملكتني رغبة في تدخين سيجارة جديدة، بعد احتسائي فنجاناً من القهوة… تباً! إنها السيجارة الأخيرة في العلبة ربما عليّ أن أوجِلْ إشعالها إلى وقت لاحق، فميزانيتي المسحوقة لا تسمح لي بشراء علبة جديدة لهذا اليوم سأصبر حتى المساء وأقضي بقية الوقت من دونها. أرتاح كثيراً عند جلوسي في هذا المقهى الكائن في شارع الرشيد. حيث تقدم فيه قهوة برازيلية أصلية بنكهة لذيذة جداً ربما تستحق الاسم المُدوّن بخط عريض على يافطتها مقهى القهوة البرازيلية. وطوال جلوسي فيه، لا يفارق سمعي صوت أم كلثوم الساحر، وهو يَصدُر من مكبرات الصوت لجهاز التسجيل الضخم القابع على رف كبير يتوسط صدر المقهى لتشدو ( هذه ليلتي وحلم حياتي… بين ماض من الزمان وآتٍ). قال الشيخ وقد انهمك رواد المقهى المحترمون كلٌ في شأنه هذا يطالع جريدة، وذاك يقلب صفحات مجلة، وهناك حلقة من الطلاب حول طاولة مستديرة، يتناقشون بحماسة في موضوع ما، وآخرون في أماكن متفرقة ساهمون يفكرون بشيء ما، كما هو حالي. لقد لفَتَ انتباهي فجأة مشهد مثير، عندما نظرت من خلال واجهة المقهى الزجاجية إلى الجانب المقابل من الشارع وجدت… ربما كلمة صباغ أحذية كبيرة عليه، إذ لم يكن إلا صبياً صغيراً لم يتجاوز السنة العاشرة من عُمرَهُ يرتدي السروال الكوردي الفضفاض، ويجلس على دكّة الرصيف ناصباً أمامه صندوقه الخشبي وقد تعلقت حوله بعض الفِرَش وقناني الأصباغ والملمعات. ينظر ساهماً إلى مَسندِ الأحذية الخالي، كأنه يندب حظه، ويرجو أن يوفق في الوقت القادم من يومه. انتبه الى صبية تربت على كتفه من الخلف، كأنها تطلب منه شيئاً. طفق يفتش في جيوبه، فلم يعثر إلا على عملة ورقية واحدة دفعها إليها، وأمرها بالجلوس بعد أن ترك مكانه وحمل نعلين بيديه وهم بعبور الشارع قاصداً المقهى. بعد عبوره الشارع، دلف المقهى يعرض على الجالسين خدماته، فأوماً إليه أحدهم أقترب منه الصبي، فقال هذا: – ( حسناً يا ولد، أريدك أن تصبغ حذائي هذا وتلمعـه جـيـداً، حتـى تشاهد صورتك فيه)… ثم كركر بسفاهة. أما الصبي، فكان يكابر وكأنه لم يسمع شيئاً بالرغم من تجاوز هذا الرجل الوقح، الذي نادراً ما نصادف مثله في هذا المقهى المحترم. قال الشيخ: أخذ الصباغ حذاء الرجل بعد أن ترك له النعلين، ثم عاد إلى مكانه وأنهمك في صبغ الحذاء والطفلة تجلس بجانبه تنتظر. عندما انتهى من صبغ الحذاء وتلميعه أعاده إلى صاحبه واسترجع نعليه. أما صاحب الحذاء، فأعطاه الأجر كاملاً دون أن ينبس ببنت شفة، محسناً التصرف هذه المرة بعد أن أحس بامتعاضنا من تصرفه الأول. عاد الصبي إلى مكانه وجلس على دكة الرصيف ثانية، بعد أن أعطى الصبية ما حصل عليه أخيراً. أخذ ينظر مجدداً إلى مسند الحذاء الخشبي متسائلاً في سِرّه: ( هل سيعتلي هذا المسند حذاء آخر هذا اليوم؟!). لم لا أعود إلى قضيتي الآن، وأنظر أي قرار سأتخذ أخيراً. إنه مجرد توقيع. توقيع واحد فقط يفتح أبواب الجنة أمامي، توقيع واحد لي بمنزلة. أفتح يا سمسم لعلاء الدین.. خمسة ملايين دينار وربما أكثر، زائداً إقامة مفتوحة في أفضل فندق من فنادق الدرجة الثانية في بغداد، مع خدمات صحية مجانية مدى الحياة، وهذا يعني حلاً جذرياً لجميع مشاكلي… ولكن، مقابل ماذا؟!. مليوناً خمسون مليون دينار… يقلص بجرة قلم من حضرتي إلى عشرين كيف لا، وأنا المخمن الوحيد في دائرة ضريبة بغداد، الذي له حق التخمين في مثل هذه الأملاك الكبيرة، نظراً للثقة غير المحدودة التي منحتها لي الدائرة، بسبب نزاهتي وحرصي على أموال الدولة، كما يصرح به رؤسائي في العمل دوماً!. قال الشيخ: لا أظن أنهم ندبوا مخمناً غيري في بغداد وعلى مدى السنوات الخمس الأخيرة من خدمتي، لأملاك تتجاوز تقديراتها الخمسة ملايين دينار، فكيف بفندق فاخر قد تصل ضريبته فيها إلى عشرات الملايين من الدنانير. لماذا لا أستغل هذه الثقة المطلقة وأحولها إلى أكوام من الملايين وأعبث بها كومة إثر كومة. يا لهذه الأنامل السحرية وما تحمل من سِرْ في جعل توقيع واحد من تواقيعها، يعدل خمسة ملايين دينار كم كنت زاهداً بمئات منها فيما مضى. لكن، لا بأس أستطيع أن أعوض ما فات منها من الآن فصاعداً، لو تخليت عن جُبني كما يقول زملائي في العمل، وبدأت أفكر بعقل وحسن تدبير. لكن، هل كان الجُبن يحول بينك وبين ما كنت تحلم به حقاً؟ لا أعتقد إن مثلك من يتملكه الجُبن أو الخوف أبداً!. معارك دامية على مدى ثماني سنوات، ومواجهات عنيفة مع الإيرانيين بعضها بالسلاح الأبيض، لم تفقد فيها مرّة شجاعتك ثم هذا الحصار الأسود وقد تجاوز عقداً من السنين حرقت خلالها الأخضر واليابس، لم تنل منك يوما ما، فكيف تجحد نفسك بإطلاقك عليها مثل هذا الوصف؟. إذن ما السِرْ يا رجل؟. ما هو هذا الشيء الذي يمنعك المارد الذي يقلقك ولا يسمح لك بالاسترسال في أحلامك، أو التفكير بتحقيقها؟!. سأشعل سيجارتي الأخيرة الآن، وأتدارك الصداع، فلم يَعُد رأسي يتحمل الابتعاد عنها أكثر، فهو على وشك الانفجار حتى أنات ( أم كلثوم) الرنانة التي تطلقها بطريقة آسِرَة، تبدو لي الآن كدَويُ قنابل ثقيلة تطلقها مدافع نمساوية عملاقة في حربٍ لعينة… كذلك سأحتسي فنجاناً آخر من القهوة البرازيلية ولتذهب ميزانيتي إلى الجحيم… سأفعل قبل أن يصيبني الغثيان. يا إلهي، ما هذا!… لا أظنني فزعت يوماً بهذه الطريقة عندما انتبهت فجأة الى يد تربت على كتفي من الخلف، والأخرى تستعطي كانتا لشخص عظيم الجثة، يحمل ملامح بليدة تفوح منه رائحة عفنة، عبارة عن مزيج من العَرَقْ والوساخة والقَمِل، كأنه كومة كبيرة من الكناسة، لا يكاد يستقر يترنح من السكر. لا أدري كيف تسلل إلى المقهى وأصبح خلفي، هل كنت شارد الذهن لهذه الدرجة على كل حال، لقد صرفته ناهراً كما فعل معه أكثر الجالسين، وهناك من رَقّ على حاله وأعطاه شيئاً من المال. لقد حرص أن يستعطي كل الجالسين ولا يفوته أحدهم، ولم يكن يعبأ بمن ينهره، بل يتحول سريعاً إلى طاولة أخرى، حتى وصل الى رجلٍ مُسِنْ أبيض الشعر، فقال له ناصحاً بصوت عطوف: ( ولدي، أليس الأجدر بك أن تعمل… أني لا أشاهد أثـر عـوق في جسدك، وتبدو قوياً بما فيه الكفاية لتحمل أشق الأعمال، هل ترضى أن يكون ذاك الطفل، صباغ الأحذية، أفضل حالاً منك؟!). أجابه المتسول السكير بصلافة وبصوت أجش: ( تباً لك يا صاح!). أرتبك الحاج المسكين، وقد بدت عليه علامات الحرج، فعطف نحونا قائلاً: (لا حول ولا قوة إلا بالله… خيراً تعمل، شراً تلقى!). أما المتسول، فأعرض قبل أن ينهي الرجل حديثه، وكأن النصائح آخر شيء يمكن أن يؤثر فيه”.

قد يعجبك ايضا