د. ابراهيم احمد سمو
من بين ثنايا التأريخ، تتجلى لنا مفارقة لافتة بين الفيلسوف والسلطان، مفارقة لا تتعلق بالمكانة أو النفوذ، بل بجوهر الأثر وبقاء الذكرى. من الفلاسفة من لم يملكوا يومًا كرسيًّا ولا جيشًا، عاشوا متقشفين، غرباء في أوطانهم، لكنهم عاشوا خالدين. أفكارهم بقيت، كأنها ولدت لتقاوم الموت، تُلهم الأجيال وتوقظ الضمائر. وفي المقابل، من السلاطين من ملكوا الأرض ومن عليها، عاشوا في بذخ وسطوة، ثم ماتوا، فمات معهم التاريخ، وكأنهم لم يمروا ذات يوم.
بعض السلاطين – وقليل ما هم – عاشوا بعزة وكرامة، وكانوا مثالًا في التفاني والتضحية لأجل الوطن والشعب، لا لأجل العرش والبقاء. ومن بين هؤلاء، يبرز اسم الملا مصطفى البارزاني، رمزًا خالدًا في ذاكرة الأحرار. لم يكن بارزاني سلطانًا، بل كان قائدًا بروح الفيلسوف، لم يسعَ إلى السلطة لأجل السلطة، بل لأجل الكرامة والحق. قدّم الغالي والنفيس من أجل وطنه، وظلّ اسمه حيًّا لأنه مثّل القيم النبيلة التي قلّما اجتمعت في رجل سلطة.
أما الغالبية من السلاطين، فقد مرّت أعوام حكمهم دون أن يتركوا أثرًا طيبًا. سادوا، تجبّروا، وأفنوا أعمارهم في السعي إلى توسيع سلطانهم، لا إلى رفع شأن شعوبهم. لم يكن همّهم التاريخ، بل البقاء، ولو بالقوة والسيف والبندقية، ولو بسفك الدماء وتكميم الأفواه. هؤلاء لم يُذكروا بخير، ولم يُرفع لهم دعاء، ولم يخلّفوا أثرًا يستحق الاحترام. وماتوا كما يموت الطغاة دائمًا: وحيدين، منبوذين، ومجردين من الخلود الذي ظنوه حقًا مكتسبًا بالعرش.
المفارقة الحقيقية لا تكمن في موقع السلطان، ولا في صورة الفيلسوف، بل في “الأداء” الذي يسبق الرحيل. فالسلطان الذي يخلّده الناس هو ذاك الذي يخرج من السلطة، وقد ترك أثرًا ناصعًا في صفحات التاريخ، لا من بلغ القسوة والبطش حدّ الجنون، وقتل وسجن وأقصى كل من خالفه. أولئك السلاطين الذين توهموا أن التاج وحده يصنع المجد، لم يدركوا أن القلوب لا تنحني إلا للحكمة، لا للقوة.
في المقابل، كان الفلاسفة على مرّ العصور هم أصحاب الخلود الحقيقي. كلماتهم، ولو خرجت من أفواهٍ متعبة وأجسادٍ متهالكة، بقيت خالدة، محفورة في الكتب وعلى جدران الذاكرة. لم تكن لديهم جيوش، لكنهم امتلكوا سلطة الكلمة، وسلاح الحكمة. ومضوا في الحياة كما يمضي الغيم، صامتًا، لكنّه يروي الأرض من بعده.
لوحة الفيلسوف لا تمحى، وأمثاله التي نُقلت من جيل إلى جيل بقيت تهدي السبيل. لأنه قال الحقيقة، لأنه أراد النصح والإرشاد لا الجاه والسلطان. يُخلَّد الفيلسوف لأنه وهب فكره للبشر، لا لأنه طلب الطاعة أو بايع نفسه ملكًا على العقول.
الفارق الجوهري أن السلاطين يصنعون اللحظة، يفرضون حضورهم بقوة القرار، أما الفلاسفة فيصنعون الوعي، يفرضون خلودهم بقوة الفكرة. السلاطين يرحلون مع عروشهم، ينهار ذكرهم بانهيار قصورهم، بينما الفلاسفة يبقون مع الضمير الإنساني، مع الفكر النقي، مع تلك الشعلة التي تشتعل كلما مرّت الأجيال على كلماتهم.
لذلك، فإن الخلود لا يُشترى بالتاج، ولا يُفرض بالسيف، بل يُنتزع بالقلم، بالكلمة التي تنير ولا تدمّر، التي تواسي ولا تظلم، التي تفتح أبواب الوعي لا أبواب الزنازين.
هكذا يبقى الفلاسفة أحياء فينا، لأنهم علمونا أن المجد لا يكون بالسلطان، بل بالحكمة والعدل والصدق