الكتابة… جوع الروح إذن، من هو الكاتب الحقيقي؟

د. ابراهيم احمد سمو

ظل يكتب حتى تماهى مع الكتابة، حتى لم يعد يفرق بين حاجته إلى الطعام وحاجته إلى القلم. كان يأكل ويكتب، يمضغ الحروف كما يمضغ اللقمة، كأن اليد لا تعرف السكون، وكأن النفس لا تهدأ إن لم تُفرغ ما فيها من فكرة، أو تسطر ما مرّ بخاطرها من ومضة.

ظل يكتب وهو يمشي، وهو في الطريق، في الازدحام، في لحظة عبور الشارع، بعينٍ تراقب إشارات المرور، وأخرى تغوص في سطرٍ لم يكتمل. ظل يكتب حتى صار الاجتماع بالنسبة له فرصة لاقتناص فكرة، والتقاط عبارة، لا يتوقف عند تفاصيل الحدث بقدر ما ينصت للمعاني الخفية خلف الكلمات، يحولها إلى ملاحظات ثم إلى نصّ، ثم إلى حياة.

ظل يكتب حتى صار الضيف في بيته، أو هو كضيف في بيوت الآخرين، لا يثنيه حضور أو مقام عن مدّ يده إلى القلم، أو قلب شاشة هاتفه ليدوّن. حتى ظنت زوجته أنه يكذب، لأنه كلما سألته: “ماذا تفعل؟”، قال: “أكتب”، وكأنها لم تعد تصدق أن هناك من يكتب بهذا القدر، بهذا الجنون، بهذه الاستمرارية التي تشبه الإدمان.

كتب في الدرس، وأثناء الشرح، وكان يدوّن الملاحظات، لا كطالبٍ يريد أن يحفظ، بل كعاشق يحاول أن يسرق لحظة بوح من معشوقه. وما إن ينتهي الدرس، حتى ينطلق كمن يطارده شيء ما، إلى زاوية في المقهى، أو ركنٍ في الشارع، أو أي مكان يشبه الهدنة، ليكمل ما بدأه.

هذا الرجل لم يكن يكتب لمجرد الكتابة، لم يكن ينشد الشهرة أو التصفيق. كان يكتب لغاية في نفسه، لا يمكن أن تُرى، بل تُشعر. كان يكتب ليملأ فراغًا داخليًا، جوعًا روحيًا لا يُشبع، كان يحاول أن يرمم جدارًا في ذاته ربما تصدّع في وقتٍ ما، أو يواجه غربةً فكرية شعر بها في محيطٍ لم يقرأ كثيرًا، ولم يكتب إلا نادرًا.

أدرك مبكرًا أن السياسيين – وجلّهم – لا يقرأون، لا وقت لديهم للكتب، ولا رغبة لديهم في الفهم خارج دوائر مصالحهم. فاندفع يكتب، لا ليقنعهم، بل ليقول ما يجب أن يُقال، وليشهد بأنه لم يصمت، حتى لو لم يسمعه أحد. كتب كما لو كان يكتب على أعينهم، لا ليراهم، بل ليقول لهم: “أنا هنا، أكتب، وأنت لا تقرأ، وها نحن نلتقي في لحظة المفارقة”.

كان يكتب لقلة من السياسيين الذين لا يزال في عروقهم شيء من الكتاب، شيء من الوعي، شيء من الرغبة في الفهم. كتب وهو يعلم أن الأغلب لا يلتفت، لكنه كان يكتب من أجل القلّة، من أجل الفكرة، من أجل ذاته التي لا تهدأ إلا إذا أفرغت نفسها في سطور.

هل سألتم يومًا لماذا يكتب هذا “العبد الفقير” كل يوم، أكثر من مقال؟
لأن الكتابة لم تعد فعلًا يختاره، بل أصبحت قدرًا يعيشه.
لأن روحه لم تعد تعرف الاستقرار إلا في الحبر، ولا يهدأ وجدانه إلا إذا رأى فكرةً تولد على الورق.
لأنه ذاب في الكتابة حتى صار جسده وكتاباته كيانًا واحدًا، لا يمكن الفصل بينهما.
لأن قلمه صار امتدادًا لنبضه، وصوته الداخلي الذي لا يريد أن يصمت، لا من أجل الآخرين فقط، بل من أجل ألا يموت فيه شيء.

هذا الرجل يكتب لأنه لو لم يكتب، لاختنق.
يكتب لأنه حين يصمت، يسمع ضجيجًا في رأسه لا يسكته سوى سطر جديد.
يكتب لأن الكلمات بالنسبة له ليست أدوات، بل كائنات حيّة، تنام وتستيقظ معه، تحزنه وتفرحه، ترافقه وتعاتبه.

لقد اختار الكتابة، أو بالأحرى، اختارته هي.
أحبته بقدر ما أحبها، وأخذته إلى عالمها، حيث لا وقت للراحة، ولا مكان للتراجع.
كتابه مفتوح دائمًا، وأفكاره لا تنضب، وقلقه لا يهدأ، ليس لأن الحياة منصفة، بل لأنها تستحق أن تُفهم وتُعبّر، حتى في ظلمها.

ولعل أجمل ما في هذا الجنون، أنه لا يُطلب، ولا يُباع، ولا يُشترى.
هو شغفٌ خالص، كالماء، كالتنفس، لا يحتاج إلى تفسير.

هذا هو الكاتب الحقيقي…
الذي لا يعرف أن يتوقف، لأن التوقف بالنسبة له موت بطيء، وانطفاء بلا عزاء.

قد يعجبك ايضا