البارتي والكتاب: علاقة تتجدد في زمن التشكيك

د. ابراهيم احمد سمو

في أحيان كثيرة، تكون الإجتماعات فرصة للإنصات فقط، لكن أحيانًا أخرى، ومع بعض العقول الذكية، تصبح الاجتماعات مساحات للتفكير العميق، وفرصًا لا تُفوّت لالتقاط الأفكار الجوهرية من بين الزخم الكثير من النقاط المطروحة. وهذا ما حدث لي اليوم، في اجتماع عادي في دهوك، من حيث الشكل، لكنه كان استثنائيًا من حيث المضمون، وخصوصًا عند تم تناول موضوع قد لا يُنظر إليه عادة بعين الجدية التي يستحقها: العلاقة بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والكتاب.

رغم كثافة جدول الأعمال وتعدد محاور النقاش، فقد توقفت طويلًا عند فقرة محددة وردت على لسان الأخ الدكتور سالار عثمان (مسوول قسم الثقافة والإعلام في الحزب الديمقراطي الكوردستاني ) حين تحدث عن ضرورة توثيق التراث الثقافي والفكري للحزب الديمقراطي الكوردستاني.

ما قاله لم يكن مجرد دعوة لأرشفة الفيديوهات أو حفظ الوثائق والصور، بل كان نداءً لفهم أعمق: كيف يمكن أن نحافظ على الذاكرة الحزبية والفكرية من خلال الكتاب، لا عبر السرد العابر بل عبر التوثيق المنظم؟

حين نُطق اسم “الديمقراطي” مقترنًا بـ”الكتاب”، شدّتني هذه الثنائية، التي قلّما تُجمع في الخطاب العام. بدا لي الحديث كأنه محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين الفكر والسياسة داخل إطار حزبي طالما وُصف، وربما اتُّهم، بأنه بعيد عن الثقافة والمثقفين. وهذا هو بالتحديد ما يجعل الحديث عن هذه العلاقة مهمًا اليوم أكثر من أي وقت مضى.

كشف الدكتور سالار أن المشروع المطروح يتمثل في محاولة طموحة لتوثيق جميع الإصدارات التي أنجزها الحزب منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا، مع التركيز على مرحلة ما بعد انتفاضة 1991، حين بدأت مؤسسات الحزب المختلفة تنتج وتطبع وتوثق.

السؤال الذي طُرح كان بسيطًا في ظاهره: ماذا لو جُمعت كل هذه الإصدارات في كيان واحد؟ في كتالوج موحد؟ في موسوعة يمكن الرجوع إليها؟ الإجابة بدت مذهلة: سيكون هناك رقم ضخم من الكتب والعناوين، كفيل بدحض الكثير من الادعاءات التي طالما رددها البعض عن غياب القلم في مسيرة الحزب.

من هذه الفكرة، انبثق مشروع أكبر: ليس فقط جمع العناوين والمؤلفات، بل إقامة مهرجان ثقافي كبير يُكرَّم فيه الكُتّاب والمؤلفون الذين أسهموا في هذا الجهد، وتُمنح فيه قلادة الشرف لكل من ساهم في تعزيز العلاقة بين الحزب والفكر. وهذا المهرجان، الذي سيكون بعنوان “البارتي والكتاب”، سيكون بمثابة رسالة مفتوحة للعالم، تقول فيها المؤسسة الحزبية إنها لم تكن يومًا بعيدة عن الكلمة، وإن المثقفين لم يكونوا على الهامش، وإن المسار الذي تسير فيه قيادة الحزب، على صعيد الفكر والإعلام، هو مسار واعٍ ومقصود.

إن توثيق الكتب الصادرة عن الحزب ليس عملًا تقنيًا فحسب، بل هو فعل سياسي وثقافي، يؤكد على أن الحزب يدرك جيدًا أهمية الذاكرة المكتوبة، ويعرف أن الكتاب هو حامل المعنى، وحافظ التجربة، وأداة التواصل بين الأجيال. وقد يكون أهم ما في هذا المشروع، هو أنه لا يكتفي بإظهار الحجم الكمي للإنتاج الثقافي، بل يسعى لإبراز التنوع والغنى والرسائل التي حملتها هذه الكتب، سواء في مجالات السياسة، أو التاريخ، أو الاجتماع، أو الفكر.

لا شك أن هذه الخطوة تأتي في وقت حساس، حيث تتصاعد الأصوات التي تتساءل عن علاقة الأحزاب السياسية بالثقافة، وتحديدًا في كوردستان، حيث كثيرًا ما يُقال إن المثقف يعيش خارج دائرة الفعل الحزبي، أو أن الأحزاب لا تهتم إلا بالسلطة، وتترك المجال الثقافي فارغًا. لكن هذا المشروع يُعيد صياغة المشهد: إنه يقول إن الديمقراطي ليس فقط حزب سلطة، بل هو أيضًا حامل مشروع فكري طويل النفس، بدأ منذ عقود، وما زال مستمرًا.

وإذا نُفّذ هذا المشروع كما خُطّط له، فإننا سنكون أمام وثيقة حية، تقول للأجيال القادمة إن الحزب الذي قاتل من أجل الحقوق، وشارك في بناء المؤسسات، كان أيضًا يكتب، ويوثق، ويحتفي بالكلمة. وهذا، في زمن الكلمة السهلة والتوثيق، ليس تفصيلًا عابرًا.

ختامًا، إن العلاقة بين “الپارتي” و”الكتاب” ليست علاقة جديدة، لكنها كانت تحتاج إلى من يُزيح عنها الغبار، ويُعيدها إلى واجهة الوعي الجمعي. ومن هنا، فإن هذا المشروع لا يوثق الكتب فقط، بل يوثق مرحلة، ويؤسس لذاكرة فكرية ناضجة، تليق بتاريخ طويل من النضال والعمل.

قد يعجبك ايضا