التبليغات القضائية في قوانين وادي الرافدين

                                                  
د. ليث طه احمد القيسي

مما لاشك فيه ان الحاجة إلى القوانين والعدالة الاجتماعية تشكل من أولويات الحضارات التي بلغت مرحلة متقدمة من النضج السياسي والاجتماعي، وكذلك كان الأمر بالنسبة للمجتمعات العراقية القديمة، حيث يؤكد الباحثون بان الدراسات المختلفة ونتائج الحفريات التي أجريت في العراق تبين بوضوح وبشكل لا يقبل الشك بان التكوينات السياسية التي ظهرت بحدود (4000 ق . م) في الأقسام الجنوبية في العراق توضح بان الاعتماد لم يكن مطلقاً على الأعراف والتقاليد فقط بل كانت لها قوانين ثابتة تنظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. 

فحضارة وادي الرافدين تتميز بالسبق الحضاري في الكثير
من نواحي العلم والمعرفة وهي صاحبة الفضل على كل الحضارات التي تلتها، ومما يلفت النظر الى حضارة وادي الرافدين انها تتميز بالحيوية والمرونة وبالرغم من ان هناك من يعتقد ان الفضل يعود إلى القانون الروماني بوصفه القانون الأمثل والأكمل، الا ان المكتشفات الأثرية الحديثة في العراق منذ مطلع القرن السابق قد صححت الخطأ الذي وقع فيه بعض الباحثين ودلت على ان الحلقة القانونية الأولى بدأت في وادي الرافدين وليس عند الرومان.

والتبليغات القضائية بوصفها من إجراءات التقاضي فقد كانت تشكل حلقة مهمة  من حلقات الإجراءات القضائية عند العراقيين القدماء، حيث ان إجراءات التقاضي كانت تمر بعدة حلقات ابتداءً من رفع الدعوى وانتهاءً باصدار الأحكام، وهذا بلا شك يشكل عملية قضائية في منتهى الدقة، وهي بهذا الوصف لا تختلف كثيراً عما هو الحال عليه في القوانين الحديثة.
والجدير الإشارة ان شريعة حمورابي قد عالجت إجراءات التقاضي وبينت مسائل في منتهى الدقة تستحق الإعجاب والتقدير من حيث كيفية إصدار قرار الحكم من قبل القاضي وكذلك كيفية محاسبة القاضي عن أخطائه المهنية والمرجع الذي يتولى تدقيق الأحكام الصادرة عن المحاكم.

ومما يدعو إلى الإعجاب في تلك الفترة الموغلة في القدم والتي تتجاوز آلاف السنين هي دقة إجراءات التقاضي لدى العراقيين القدماء، وهذا ان دل على شيء إنما  يدل على مدى النضوج الفكري والاجتماعي لدى العراقيين في تلك المرحلة، في وقت سادت فيه فكرة الانتقام الفردي، حيث كان الفرد يقتص بنفسه لنفسه، مع عدم وجود سلطة عليا  تتولى الفصل في القضايا والمنازعات. فمن الإجراءات التي كان يتوجب على
الشخص ممارستها هي إقامة الدعوى على الخصم من اجل الحصول على حقه وحمايته، كذلك تعد دعوة الخصم للمحاكمة من الشروط التي كان يترتب على تخلفها تعطل النظر في الدعوى ومن ثم التحقيق في الدعوى وتنتهي الإجراءات بصدور القرار الحاسم في الدعوى.

والذي يهمنا من كل الإجراءات القضائية السالفة هو الإجراء المتمثل بالتبليغات القضائية، فبعد اتخاذ الإجراءات الخاصة باقامة الدعوى، تبدأ الخطوة اللاحقة والمتمثلة بتحديد موعد للمرافعة للنظر في القضية، وبعد تحديد موعد المرافعة، يبلغ كل طرف من أطراف الدعوى بالحضور إلى المحكمة، وكانت مهمة التبليغ تقع على عاتق الموظفين الذين كان يطلق عليهم (ريدي بابتم Ridi babtim) وكان التبليغ عادة يتم بصورة تحريرية، ومن هذه التبليغات ما جاء في الوثيقة السومرية التي يعود تاريخها إلى حدود (2000 ق . م) “اذا لم يحضر صباح غد أمام المحكمة، سوف يصدر القرار النهائي بعد أداء القسم باسم الملك وأمام الشهود.
يستفاد مما تقدم ان التبليغات القضائية لدى العراقيين القدماء كانت تتسم بدرجة عالية من الدقة، ودليلنا على ذلك هي ان مهمة التبليغ كان من مهام طائفة معينة من الموظفين التابعين للمحكمة فلم يكن اجراء التبليغ عشوائياً، من جهة أخرى فالتبليغات القضائية كانت تتم بصورة تحريرية على شكل وثيقة وهي بهذا الوصف تقترب كثيراً من التبليغات في الوقت الحاضر وهي صفة الشكلية حيث لابد ان يكون التبليغ بصفة ورقة صادرة عن المحكمة ومشتملة على جملة بيانات.

قد يعجبك ايضا