استراتيجيات صلاح الدين الايوبي الريادة الكردية ساهمت في تحوّلات التاريخ الاسلامي
أ.د. سيّار الجميل
الرؤية المعمّقة لا النظرة السطحّية
كنت قد وعدتكم في الحلقة السابقة باكمال مقالي عن صلاح الدين الأيوبي وتفنيد ما يطرحه اليوم بعض المتفقهين في التاريخ تحت شعار”فهم التاريخ”. وهم سطحيون يسقطون الحاضر على الماضي، ويحاولون تشويه الصورة التاريخية من دون احاطة كاملة بكلّ مصادره ومستنداته العربية واللاتينية وهم بلا فهم لنسيج علاقاته وشبكة جغرافيته ، بل لغايات لم يدركها البعض ، خصوصاً ، وهو الأهم ممثلاً بسقوط خلافة فاطمية من مصر لم يستطع الفاطميون الدفاع عن مصر ضدّ تحدّيات الصليبيين الاوربيين وعودتها الى حاضنة الخلافة العباسية في بغداد تحت راية زعيم كردي ، وهذا أمر خطير جدّا في التاريخ ..
دعوني أحدد رؤيتي الى استراتجيات صلاح الدين وهو الرائد الكردي والذي ساهم باجراء تحوّلات تاريخية مثيرة ، وسأقتصر على النقاط التي يعتبرها أعداؤه ثغرات للطعن فيه :
1/ عقيم من لم يمتلك قاعدة معلومات واسعة عن منجزات تمتعت بها أجيال:
زعيم كردي ولد في العراق ونجح في توحيد مصر وبلاد الشام بقوة وخوض معارك ودهاء سياسي في دفاعه عن شرق المتوسط ضد الصليبيين . ومن الغرابة ان تجد اليوم اجماعاً في العالم على عظمة زعيم له استراتيجياته الذكية قبل أكثر من تسعمائة سنة ، ويخرج من بيننا من يريد بشتى الطرق تشويه تاريخ صلاح الدين وجعله “شخصاً حقيراً” ويوّسع من حجم خطاياه على حساب منجزاته العظمى ، ويلح ويصرّ ويصفّق له من لم يلتفت محترماً الى ما هو مدّون عنه في الشرق والغرب ..
2/ البطولة هي الانتصار وحدك على اعدائك الذين احاطوا بك من كلّ الجهات
ولا تستغربوا ان جابه صلاح الدين بنفسه دولا وجماعات وطوائف حاربته وتآمرت في محاولات بائسة لاغتياله في حياته ، ويجابه الطعن والكراهية المقيتة من خصومه، فبقاياهم موجودة في مجتمعاتنا حتى اليوم. انني اعتبره اقوى محارب ، وأدهى سياسي ، وأذكى استراتيجي وخبيراً في جغرافية المناطق ورجلاً صلباً أمام الشدائد، وصعباً في صنع القرارات . كانت له ثقافته
الواسعة ، ونجح في تكوين دولة ونظام وواجه تحدّيات مصيرية في دواخل مملكته ومن خارجها . وأسأل كل المتفلسفين الفنتازيين اليوم: هل تطبق حقوق الانسان في القرن الحادي والعشرين حتى تتشدقون وتطالبون صلاح الدين بعدم تطبيقها قبل تسعمائة سنة وهو يقتحم التحدّيات الصعبة في عالمنا ابان العصور الوسطى ؟ ما أقصر حدود رؤيتكم للأزمنة ؟
3/ كردي الانتماء ودور الفرقة الكردية في مصر
ان كان صلاح الدين كرديا باجماع المؤرخين ، فان من يقول عكس ذلك فهو يكذب ، وهو تلميذ بارع لعمه القائد الكردي شيركوه وشاركت فرقة كردية كبيرة يقودها صلاح الدين في مصر ، وكان في السادسة والعشرين من عمره وكان نائبه عيسى الهكاري مع العديد من الضباط الكرد . ان من يعرف طبائع الكرد بعمق واسع ، يجد أن صلاح الدين هو الاقرب اليها من اي كائن آخر نظرا لما لمسنا فيه من حدّية وصلابة وشجاعة وواقعية وأمانة في القول والفعل .
4/ معاركه الأولى ضد الصليبيين من اجل حماية مصر
شارك قائدا في معركة البابين وكان له دوره التاريخي كوزير في دولة فاطمية وحما بلبيس من الصليبيين كل من الكرد والزنكيين وايضا دوره في معركة دمياط الشهيرة في البحر منقذا مصر . وقضى صلاح الدين وعمه على الجواسيس الذين كانوا يعملون لحساب الصليبيين سواء في نظام حكم الفاطميين ام من البدو العرب كادلاء ومرشدين مرتزقة ، ام من آلاف المرتزقة من الزنوج العبيد . . ان ادواره في مصر تاريخية وقد حماها من الصليبيين .
5/ وزير مصر : معارك صلاح الدين في مصر برا وبحرا وتحرير غزة من الصليبيين
وعيّن صلاح الدين وزيرًا عند الفاطميين ، ومع اختلاف الروايات حول تنصيبه وهو الكردي السني الا أن أدواره وانضباطه واخلاقياته قد نال فيها سجلًا حافلًا بالمؤهلات العسكرية. فقد أنقذ داروم وغزة وايلات من الصليبيين ، وانتصر في معركة دمياط البحرية وهو وزير . صلاح الدين كان ضرورة تاريخية لمصر ضد هجمات الصليبيين والتي بدونه لاتجه تاريخها الى طريق آخر .
6/ الافتراء على صلاح الدين بقتله 50 الف انسان !
قام 50 ألف جندي أفريقي أسود من أفواج الجيش الفاطمي المعارضين لحكم صلاح الدين، إلى جانب أمراء فاطميين، بعصيان عنيف ضد صلاح الدين . فهل يا ترى يجلس يتباهى بهم وهم يقتلون وينهبون ؟ ام يشن حربه ضدّهم ، فنجح في قمع المنتفضين بشكل حاسم، ولم يواجه أي تحدٍّ عسكري من أهل القاهرة. ، بل أسأل : لماذا رضى كل أهل مصر به بعد أن عاشوا انهيار الفاطميين في مصر التي كادت تقع فريسة بأيدي الصليبيين ؟ وما عاناه المجتمع المصري طويلا من الأحوال السيئة . لقد كان أهل مصر العوبة بأيدي الخلفاء الكسالى والصبيان لأكثر من قرنين كاملين ؟
7/ اخطر تحّول تاريخي لصلاح الدين : عودة مصر الى الخلافة العباسية
قامت الدنيا ضده للتحول التاريخي لمصر وعودتها الى الخلافة العباسية من قبل صلاح الدين عام 1171 بمعنى ترسيخ كل من المذهبين المالكي والشافعي بدلا من الاسماعيلي ، وتلك أخطر خطوة فعلها صلاح الدين بأوامر من نور الدين زنكي. فاشعل صلاح الدين ضده مصر الفاطمية والفرق الباطنية في سوريا كالحشاشين والنصيرية وزيدية اليمن ناهيكم عن بعض النشطاء السياسيين وهم في عباءات متصوفة .. ودبرت له خطط الاغتيال وحيكت ضده المؤامرات. الناس في تلك الأزمنة لم تنظر اليه الا زعيما مسلما ، ولا يعتب أهل مصر كون صلاح الدين عراقيا !
8/ توحيد مصر وسوريا
كانت خطوة تاريخية كبرى ولكن لم يواجه صلاح الدين اعداءه من الصليبيين لوحدهم حسب ، بل واجه الخصوم الجدد من الاتابكة الزنكيين بعد رحيل نور الدين ، ودخل في صراعات متعددة معهم وخصوصا في حلب والموصل بعد استقباله في دمشق ، اذ كانوا يخشون من ضياع ممالكهم ، وفرض سيادته الايوبية ، وكان معززا مكرما من قبل العباسيين في بغداد . وعانى كثيرا من صعوبة الاندماج الايوبي المصري مع الزنكي السوري، اضافة الى السمعة التي نالها في العالم الاسلامي. ومن ثمّ سمعته التي استحقها عن جدارة في العالم.
9 / استراتجيته الحربية ومهاراته السياسية
يقف المؤرخ مندهشا ازاء الخطط الحربية التي يرسمها في معاركه بدقة وشجاعة والتي اتبعها في حروبه ضد الصليبيين ، وبنفس الوقت كان يتمتع بمهارات سياسية ، اذ كان داهية سياسية في التفاوض ، وقرارات الحسم، وكيفية بناء العلاقات مع الملوك والملكات ..ناهيكم عن معرفته بالجغرافية وطبوغرافية المواقع ومعرفته في الفلك وبعض العلوم .. وان تاريخه مثقل بالاحداث المهمة التي تفتقر اليها سير غيره من الزعماء الأولين والآخرين . استولى صلاح الدين على معظم مدن الصليبيين ، وهو بطل حطين ومحرر القدس وطارد الصليبيين من مكان الى آخر ، وقد سامح ملوكا واباطرة لأنهم احترموا ارادته ، ولكنه اعدم من اساء له او لدينه كما جرى لامير الكرك رينالد .
10/ زعيما واقعياً يقول ويفعل وليس مثالياً يتغنى ويكذب !
نعم، كان في منتهى الواقعية، اذ لم يكن خياليا او يؤمن بشطحات المتصوفة برغم احترامه للتصوف .. ولكن يكره من يظهر عكس ما يبطن كما يعرف طبيعة كل مجتمع وكيفية التعامل معه كان صبورا في مواجهة الشدائد، ومن اخطائه :سرعة غضبه وعصبيته وقسوته ضد المسيئين والمرتزقة .. كانت له منجزاته المدنية والحضرية في مصر .. وهو من اعظم الزعماء في تاريخ البشرية اثارة للجدل والاهتمام منذ مئات السنين . ان لبّ المشكلة بينه وبين خصومه المسلمين أنه كان عبّاسيّا ولا يؤمن بايديولوجيات أخرى .
وأخيرا ، هل كان صلاح الدين زعيما عظيما أم انساناً حقيراً ؟
كتب الصديق مارك كارترايت، Mark Cartwright مدير النشر في موسوعة التاريخ العالمي : “من المثير للسخرية أن يصبح القائد المسلم أحد أعظم نماذج الفروسية في الأدب الأوروبي في القرن الثالث عشر. لقد كُتب الكثير عن السلطان خلال حياته ومنذ ذلك الحين، لكن وجود تقدير لدبلوماسيته ومهاراته القيادية في المصادر الإسلامية والمسيحية المعاصرة يوحي بأن صلاح الدين يستحق مكانته كواحد من أعظم قادة العصور الوسطى” .
سألت نفسي : كم يظلم العظماء في مجتمعاتنا من قبل بني جلدتهم مقارنة بما يجدونه من تقييم وانصاف في مجتمعات اخرى ؟
20 ابريل / نيسان 2025