كيف يمكن فهم السياسات الداخلية والخارجية للصين؟

 

 

د. إيمان عبد الحليم

يفرض تموضع الصين بوصفها قوة عالمية في النظام الدولي الحالي، ضرورة فهم سياساتها، سواء داخلياً أو خارجياً، بالأخص في وقت يتزامن مع حدث شديد الأهمية في منتصف أكتوبر 2022؛ إذ من المُقرَّر أن يعقد الحزب الشيوعي الحاكم الدورة العشرين لمؤتمره الذي يُعقَد كُل خمس سنوات، وهو الحدث الأكثر أهميةً في جمهورية الصين الشعبية، خاصةً أنه يضع معالم السياسات الداخلية والخارجية للبلاد في السنوات القليلة المقبلة.

 

 

 

كما من المُرجَّح أن يشهد المؤتمر تكريساً لنفوذ الرئيس الصيني شي جين بينج الذي يطمح إلى ولاية ثالثة، في حدث غير مسبوق في تاريخ الصين، وكذلك يُتوقع ترقية بعض أعضاء اللجنة المركزية للحزب الحاكم، وإمكانية دخول وجوه جديدة في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، التي تُعَد الكيان الأقوى سياسياً.

 

ومن هذا المنطلق، يُقدِّم “إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية” هذا الملف؛ إذ يركز أولاً على القضايا الداخلية، سواء عبر الإجابة على التساؤل المتعلق بكيفية فهم سياسات الرئيس الصيني لتعزيز حكمه، أو توضيح مكانة “شي” في النظام الصيني الحالي، كما يتطرَّق الملف إلى مستقبل القيادات العسكرية العليا في الجيش الصيني، والتحديات التي تحول دون حدوث تحوُّل في جيل قيادات مراكز صنع القرار بالبلاد، دون إغفال البُعد الاقتصادي، في ظل تصاعد التحديات التي تواجه النموذج الصيني.

 

 

 

 

 

ومن جانب آخر، يُركِّز الملف على تصاعد ضغوط الحكومة الصينية على شركات التكنولوجيا الوطنية، وتوضيح الأسباب التي تقف خلف ذلك، علاوةً على ملامح سياسات بكين لتحجيم الخصوم، لا سيما الولايات المتحدة، مع التركيز على الصدام الاقتصادي والتكنولوجي بين الطرفَين، وقضية تايوان جنباً إلى جنب مع تفاعلات الصين في ملفات أخرى، مثل علاقاتها بحركة طالبان، والنفوذ الصيني في القارتين الأفريقية والآسيوية.

 

كيف يمكن فهم سياسات الرئيس الصيني لتعزيز حكمه؟

في الوقت الذي ينتظر فيه تنظيم “الحزب الشيوعي الصيني” مؤتمره الذي يُعقَد كل خمسة أعوام، في 16 أكتوبر 2022، الذي يُتوقَّع أن يؤسس لمرحلة جديدة في المشهد السياسي الصيني، وخصوصاً أن ثمة اتجاهاً نحو المصادقة على تولي الرئيس الصيني “شي جين بينج” فترة رئاسية ثالثة غير مسبوقة؛ اهتمت مجلة “الإيكونوميست” بتقديم قراءة حول مدركات الرئيس الصيني في الحكم، ونشرت في إطار ذلك تقريرين بعنوان: “تحقيق حول العوامل المُشكِّلة لتفكير شي جين بينج”، في 28 سبتمبر 2022، و”كيفية فهم شي جين بينج حاكم الصين المُبهَم”، في 29 سبتمبر 2022.

 

دعم السيطرة

يفترض التقريران أن الرئيس الصيني سيعمل على تعزيز نفوذه وسلطته خلال الفترة القادمة، وهو الأمر الذي يرتبط بالأبعاد التالية:

 

1– الغموض المُحيط بشخص الرئيس “شي جين بينج”: لفترة طويلة قبل وصوله إلى السلطة، اعتُبر الرئيس “شي جين بينج” شخصاً يكتنفه الغموض؛ فلم يكن سياسياً معروفاً على نطاق واسع، ولم تكن له تصريحات أو أفعال لافتة للنظر، بل على غير العادة بالنسبة إلى قائد مستقبلي، أمضى 17 عاماً في مقاطعة واحدة؛ هي مقاطعة “فوجيان” على الساحل الجنوبي الشرقي للصين؛ حيث لم يكن يتوقع أن يصبح زعيماً وطنياً؛ وذلك قبل أن يحصل على أول وظيفة له رئيسَ حزب إقليمي في عام 2002 بمقاطعة “تشجيانج” المجاورة.

 

 

واستمرَّ الغموض حول شخص الرئيس حتى فيما بعد توليه الحكم؛ فلم يُجْرِ مقابلات وجهاً لوجه مع الصحفيين الغربيين، ولم يَعقِد أي مؤتمرات صحفية باستثناء المؤتمرات القصيرة التي كان فيها بجانب القادة الأجانب خلال زياراتهم إلى الصين. وهذا الغموض يجعل من الصعب توقع تحركات الرئيس الصيني، وهو أمر ربما ساعده على تعزيز حضوره السياسي.

 

2– قدرة الرئيس الصيني على تعظيم نفوذه في الحكم:على عكس التوقعات بتبنيه نهجاً إصلاحياً إثر توليه الحكم في عام 2012، والعمل على التوافق مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، فإن الرئيس الصيني أظهر قوة وقسوة في الحكم مقارنةً بأي زعيم آخر منذ حكم “ماو تسي تونج” الذي توفي في عام 1976؛ حيث أجرى “بينج” عمليات تطهير كاسحة في داخل “الحزب الشيوعي الصيني” وبين صفوف قوات الأمن، هادفاً إلى إزالة الفاسدين وإزاحة الأعداء السياسيين المحتملين، مع عمله على سحق المعارضة، والقضاء على معظم أنشطة المجتمع المدني.

 

3– دعم النخبة عامل مساعد في توسع نفوذ الرئيس: رغم عدم بروزه زعيماً وطنياً محتملاً قبل توليه الحكم بفترة طويلة، كانت هناك عدد من العوامل دعمت نجاح الرئيس في توسيع سطوته ونفوذه فيما بعد توليه الحكم. ويمكن الإشارة هنا إلى عامل رئيسي متمثل في الدعم الذي تمتع به داخل النخبة، وخصوصاً بعد نجاة الصين خلال فترة حكمه من عاصفة الأزمة المالية العالمية في الفترة من 2007 إلى 2009 خلال فترة وجيزة، وحديث الرئيس “بينج” عن “الحلم الصيني” و”التجديد العظيم” للبلاد، الذي لامس وتراً حساساً لدى الكثيرين في الصين.

 

4– جذور عائلة الرئيس الصيني:العامل الآخر الذي دعم سطوة الرئيس يرتبط بجذور عائلته؛ حيث يُعرف “بينج” في الصين بأنه “تايزي” (taizi)، أو “أمير”، وهي الكلمة التي يشيع استخدامها في الصين للدلالة على نسل القادة من أبناء مؤسسي الصين الشيوعية، الذين يتمتعون بمزايا سياسية في الدولة؛ حيث كان والده من الرواد الثوريين في الصين، غير أن دعمه اللاحق للانفتاح الاقتصادي والإصلاح كان سبباً للقبض عليه وتعرضه للتعذيب من جانب نظام “تونج”، وانتحرت أخته غير الشقيقة بسبب الخلافات أيضاً مع السلطة.

 

ومع ذلك نشأ “بينج” باعتباره من سلالة أمراء الصين، ليسلك طريقاً مختلفاً في الحكم عن والده، من منطلق إحساسه الحقيقي بـ”الاستحقاق”، بحسب ما جاء في إحدى تسريبات “ويكيليكس”؛ حيث يعتقد “بينج” أن أفراد جيله هم “الورثة الشرعيون للإنجازات الثورية لعائلاتهم”، ومن ثم “يستحقون حكم الصين”.

 

5– اعتماد “بينج” الواسع على قوة الحزب الشيوعي الصيني:اعتمد “بينج” كذلك على تقوية الحزب الشيوعي باعتبار ذلك أداة لتقوية حكمه؛ فهو على عكس “تونج”، أراد محاربة رواد الأعمال من القطاع الخاص لكن ليس القضاء عليهم؛ ذلك لأن مساهمتهم في الاقتصاد قيمة للغاية بحيث لا يمكن الاستغناء عنها. وأيضاً على عكس “تونج” الذي عمل على تدمير الهياكل الحزبية سعياً وراء أهداف طوباوية، فإن الرئيس “بينج” عمل على تقوية الإطار السياسي والاقتصادي للبلاد، من خلال الإبقاء على السيطرة القوية للحزب الذي حوَّله إلى آلة منتشرة في كل مكان بعد أن كان قد اختفى من حياة العديد من المواطنين العاديين.

 

فكان من الواضح أن الرئيس الصيني يعتقد أن الحفاظ على الخطاب الأيديولوجي التقليدي للحزب – بغض النظر عن مدى ابتعاده عن العديد من جوانب الرأسمالية التي تقودها الدولة اليوم – أمر حيوي لإبقاء أعضائه البالغ عددهم 97 مليوناً في حالة تماسك، مع إبقاء نفسه في السلطة، فضلاً عن استخدام الحزب سلاحاً لتدعيم نفوذ الرئيس ومواجهة المعارضين. وعلى حد تعبيره هو نفسه، فإن “الحكومة والجيش والمجتمع والمدارس (الشرق والغرب والجنوب والشمال والوسط) يقودهم الحزب جميعاً”.

 

6– التوقعات باحتفاظ الرئيس بسلطاته فيما بعد مؤتمر الحزب:من المنتظر أن يعقد “الحزب الشيوعي الصيني” مؤتمره الذي يُعقَد كل خمسة أعوام في 16 أكتوبر المقبل، والذي سيستمر قرابة أسبوع، وسيؤدي إلى إعادة تشكيل قطاع عريض من النخبة الحاكمة التي ستجتمع بعد ذلك لاختيار القيادة الأساسية لنصف العقد المقبل. ويكاد يكون من المؤكد أن الرئيس “بينج” سيُعَاد تعيينه زعيماً للحزب وقائداً للجيش، مع إعادة تعيينه رئيساً للدولة في أوائل العام المقبل، في حدث غير مسبوق خلال حقبة ما بعد “تونج”؛ إذ كان الحد الأقصى لهذه الوظائف هو فترتين مدة كل منهما خمس سنوات.

 

تحديات رئيسية

بالرغم من التوقعات باستمرار سلطة ونفوذ الرئيس الصيني، فإن حكمه قد يواجه تحديات رئيسية متمثلة فيما يأتي:

 

1– المخاوف التي تُثيرها طموحات الرئيس الخارجية: خلال فترة حكم الرئيس “بينج” عمل على تحويل الضفاف الرملية في بحر الصين الجنوبي إلى حصون، وهدد تايوان بمناورات عسكرية بالقرب من ساحل الجزيرة، وزاد من نشر الأسلحة النووية لإبقاء أمريكا في مأزق، ساعياً خلال ذلك إلى تعزيز قوة الصين العالمية، مستخدماً ثقلها الاقتصادي في تدعيم نفوذها السياسي في مواجهة الغرب الذي يسخر منه باعتباره فوضوياً وفي حالة انحطاط.

 

وفي هذا الإطار، تثير احتمالات استمراره في الحكم مخاوف وتساؤلات حول انعكاس شخصيته على السياسة الخارجية لبلاده إذا نجح في تدعيم سلطته ونفوذه على الساحة الداخلية، وإن كان سيقدم نموذجاً شبيهاً لـ”فلاديمير بوتين” في حال استعداده لتحمُّل مخاطر هائلة لتأمين طموحاته الإقليمية؟ والمدى الذي يمكن أن يذهب إليه في تحدي الغرب تحقيقاً لهذه الطموحات والأهداف؛ فحتى إن لم يُظهِر “بينج” إشارات إلى كونه متهوراً ومجازفاً مثل بوتين، فإن الاستيلاء على تايوان يظل هدفاً معلناً للحزب الشيوعي الصيني الذي يواصل بناء قدراته تحقيقاً لهذا الهدف.

 

2– احتمالية مواجهة معارضة داخلية:رغم مصادر القوة المتعددة السابقة الإشارةُ إليها، فإن الرئيس لا يزال يتحسَّب من أعداء الداخل؛ ما يُفسِّر شنه حرباً ضد “فصيل سياسي” في الشرطة خلال العامين الماضيين، يقول المسؤولون إنه كان يشكل “تهديداً خطيراً على الأمن السياسي” بالدولة، وخلال ذلك حُكِم في الأيام القليلة الماضية على نائب وزير الأمن العام السابق “سون ليجون” بالإعدام مع وقف التنفيذ، وهو الحكم الذي يمكن تخفيفه إلى السجن المؤبد دون الإفراج المشروط، وحكم على آخرين بالسجن لمدد طويلة.

 

3– الانعكاسات الممتدة للتباطؤ الاقتصادي: ففي حال تباطؤ الاقتصاد، قد ينحسر الدعم الشعبي للرئيس، الذي سيكون أكثر ميلاً إلى تضييق الخناق على المعارضة، وخصوصاً مع إصراره على مواصلة استراتيجية الصين “الخالية من الوباء”، بالرغم من العبء الثقيل على الاقتصاد، وتذمُّر المواطنين المتضررين من عمليات الإغلاق القاسية، في مقابل رفض الرئيس استخدام اللقاحات الأجنبية التي من شأنها أن تُمكِّن الصين من الخروج من الوباء على نحوٍ أسرع.

 

خلاصة القول: يبدو أن الرئيس الصيني “شي جين بينج” سيتمكَّن خلال الفترة القادمة من تعزيز سلطته ونفوذه؛ وذلك اعتماداً على الحزب الشيوعي الصيني؛ فخلال المؤتمر القادم للحزب في شهر أكتوبر الجاري، ستُتَّخذ قرارات من شأنها التمديد للرئيس الصيني لفترة جديدة، ومع ذلك فإنه لا يمكن توقُّع أن سلطة الرئيس الصيني ستكون بلا تحديات؛ فهناك العديد من الملفات الداخلية، وفي مقدمتها الملف الاقتصادي الذي قد يُنتِج ضغوطاً عديدةً على الرئيس، كما يمكن أن يواجه الرئيس الصيني تياراً معارضاً من النخب السياسية المستاءة، بطريقة أو بأخرى، من توسُّع سلطة “بينج”.

 

المصادر:ِ

An investigation into what has shaped Xi Jinping’s thinking, The Economist, September 28, 2022.

https://www.economist.com/briefing/2022/09/28/an-investigation-into-what-has-shaped-xi-jinpings-thinking

 

How to make sense of Xi Jinping, China’s enigmatic ruler, The Economist, September 29, 2022.

https://www.economist.com/leaders/2022/09/29/how-to-make-sense-of-xi-jinping-chinas-enigmatic-rulerِِِ

 

نقلا عن موقع الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والأستراتيجية

إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

قد يعجبك ايضا