متابعة ـ التآخي
تعد البرامج الانتخابية للأحزاب المشاركة في أي انتخابات حجر الزاوية في العملية الديمقراطية، ولها أهمية بالغة في زيادة نسبة مشاركة السكان في التصويت وتعزيز الثقة بالنظام السياسي، وذلك عن طريق، أولا، زيادة نسبة مشاركة السكان في الانتخابات، بتوعية الناخبين، اذ تقدم البرامج الانتخابية معلومات واضحة ومفصلة حول رؤى الأحزاب وسياساتها المقترحة في شتى المجالات (الاقتصاد، التعليم، الصحة، الخدمات، الأمن، إلخ). هذا يساعد الناخبين على فهم الخيارات المتاحة بشكل أفضل واتخاذ قرارات مستنيرة عند التصويت.
وعندما يجد الناخبون برامج انتخابية تتناول قضاياهم واهتماماتهم بشكل مباشر وتقدم حلولًا واقعية، فإن ذلك يزيد من اهتمامهم بالعملية الانتخابية ويشجعهم على المشاركة والتعبير عن آرائهم عن طريق التصويت.
وتساعد البرامج الانتخابية الناخبين على ربط أصواتهم بأهداف وسياسات محددة. هذا يجعل عملية التصويت أكثر أهمية وذات مغزى، اذ يشعر الناخب بأن صوته يمكن أن يحدث فرقًا في تشكيل مستقبل البلاد.
ويمكن للأحزاب أن تصمم برامج انتخابية تستهدف فئات محددة من السكان (الشباب، النساء، العمال، إلخ) وتعالج قضاياهم الخاصة. هذا يشجع هذه الفئات على المشاركة بشكل أكبر في الانتخابات.
ثانيا، تعزيز الثقة بالنظام السياسي عن طريق الشفافية والمساءلة فعندما تقدم الأحزاب برامج انتخابية واضحة ومفصلة، فإنها تخلق توقعات لدى الناخبين. بعد الانتخابات، يمكن للناس محاسبة الأحزاب الفائزة على مدى التزامها بتنفيذ وعودها الانتخابية. هذه الشفافية والمساءلة تعزز الثقة في النظام السياسي.
وتسهم البرامج الانتخابية في إطلاق نقاش عام بشأن القضايا الهامة التي تواجه المجتمع والحلول المقترحة لها. هذا الحوار يعزز الوعي السياسي ويسهم في بناء نظام أكثر تفاعلية واستجابة لاحتياجات السكان.
وعندما تقدم الأحزاب برامج واقعية وقابلة للتطبيق لمعالجة المشكلات التي يعاني منها الناس، فإن ذلك يعكس التزامها بتحسين حياة المواطنين ويعزز ثقتهم في قدرة النظام السياسي على تحقيق ذلك.
وعندما يشعر الناس أن لديهم خيارات حقيقية وأن أصواتهم يمكن أن تؤثر على السياسات العامة بوساطة البرامج الانتخابية، فإن ذلك يقلل من شعورهم بالإقصاء ويعزز احساسهم بالانتماء والمشاركة في النظام السياسي.
باختصار، يمكن القول أن البرامج الانتخابية ليست مجرد وثائق دعائية، بل هي أدوات أساسية لتعزيز المشاركة الديمقراطية وبناء الثقة بين السكان والنظام السياسي. إنها توفر الأساس الذي يمكن للناخبين بوساطته اتخاذ قرارات مستنيرة ومحاسبة المسؤولين المنتخبين، مما يؤدي في النهاية إلى نظام ديمقراطي أكثر قوة وشرعية.
الانتخابات العراقية وغياب الثقة
في الواقع، يلاحظ غياب أو ضعف البرامج الانتخابية المفصلة والواضحة للأحزاب والائتلافات في العراق في معظم الأحيان؛ وبدلًا من التركيز على تقديم رؤى وسياسات محددة، تميل الحملات الانتخابية إلى التركيز على الطائفية والمحاصصة، اذ يؤدي الانتماء الطائفي والإثني دورا كبيرا في تشكيل الولاءات الانتخابية في العراق.
وغالبًا ما تعتمد الأحزاب على هذه الانتماءات لحشد الأصوات أكثر من اعتمادها على برامج سياسية او خدمية. ونظام المحاصصة الذي يوزع المناصب على أساس طائفي يقلل من الحاجة إلى برامج تنافسية، اذ أن حصص السلطة غالبًا ما تكون محددة مسبقًا.
كما تتميز الانتخابات العراقية بغياب ثقافة المساءلة الحزبية، اذ لا يتواجد تقليد قوي لمحاسبة الأحزاب على أساس وعودها الانتخابية، حتى عندما يجري تقديم بعض البرامج، غالبًا ما يتم تجاهلها بعد الانتخابات من دون مساءلة شعبية أو برلمانية فعالة.
كما يجري في انتخابات العراق التركيز على الشخصيات والرموز، اذ تميل الحملات الانتخابية إلى التركيز على الزعماء والشخصيات البارزة في الأحزاب أكثر من التركيز على الأفكار والسياسات؛ الولاء للشخصية قد يطغى على تقويم البرنامج الانتخابي.
يقول بعض الباحثين، ان عدم الاستقرار السياسي والأمني المزمن في العراق يجعل من الصعب على الأحزاب التخطيط وتنفيذ برامج طويلة الأمد، وغالبًا ما تركز الأحزاب على القضايا الآنية والأزمات الطارئة بدلًا من وضع رؤى مستقبلية مفصلة.
كما ان ضعف المؤسسات الحكومية والرقابية يقلل من أهمية البرامج الانتخابية كأدوات للتخطيط والتنفيذ والمتابعة؛ وغالبًا ما تفتقر الأحزاب العراقية إلى آليات ديمقراطية داخلية قوية تسمح بصياغة برامج انتخابية تشاركية تعكس احتياجات وقضايا القاعدة الشعبية.
انخفاض نسب المشاركة في انتخابات العراق
تكرست في العمليتين الانتخابيتين الأخيرتين في العراق، الانتخابات العامة وانتخابات مجالس المحافظات، ظاهرة الانخفاض الكبير في نسبة مشاركة العراقيين، ويعود ذلك الى أسباب عدة.
من ذلك فقدان الثقة بالنظام السياسي والعملية الانتخابية، اذ ان سنوات من عدم الاستقرار السياسي والفساد وسوء الخدمات وفشل إدارة الازمات وعدم محاسبة المسؤولين أدت إلى تآكل ثقة السكان في قدرة النظام السياسي على إحداث تغيير إيجابي.
كما يتنامى الشعور بعدم جدوى التصويت، اذ يرى معظم العراقيين (وتعكس موقفهم نسب المقاطعة المرتفعة) أن أصواتهم لا تحدث فرقًا حقيقيًا وأن نتائج الانتخابات غالبًا ما تكون محددة مسبقًا بوساطة المحاصصة والتوافقات السياسية خلف الأبواب المغلقة.
كما لا تتواجد خيارات انتخابية مقنعة، فعندما لا تقدم الأحزاب برامج واضحة ومختلفة تعالج مشكلاتهم الحقيقية، يشعر الناخبون بأنه لا يتواجد مرشح أو حزب يستحق صوتهم؛ وبعض الفئات السياسية والشعبية تدعو إلى مقاطعة الانتخابات كوسيلة للاحتجاج على النظام السياسي القائم أو على قوانين الانتخابات.
كما ان الظروف الأمنية غير المستقرة في بعض المناطق والأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة قد تثني بعض الناس عن المشاركة في الانتخابات، وكذلك فان بعض الإجراءات المتعلقة بالتسجيل والتصويت قد تكون معقدة أو غير واضحة لبعض الناخبين، مما يقلل من حماسهم للمشاركة.
وفي ظل نظام المحاصصة، غالبًا ما يجري تشكيل الحكومات بناءً على توافقات بين الكتل السياسية الكبيرة بغض النظر عن نتائج الانتخابات الفعلية، مما يقلل من أهمية صوت الناخب في تحديد شكل الحكومة.
ولقد جرى بعد اعلان نتائج الانتخابات التشريعية عام 2021 تكليف القوى الخاسرة بتشكيل الحكومة وعدم افساح المجال للقوى الفائزة بأعلى المقاعد بحق تشكيل الوزارة وذلك خرق للعرف الديمقراطي، بحسب المراقبين، ما أدى الى تزايد تذمر السكان وفقدانهم الثقة بالانتخابات، كما انسحب التيار الفائز بأعلى الأصوات من مجلس النواب.
متطلبات رفع نسبة المشاركة
يجب على مفوضية الانتخابات ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام تشجيع الأحزاب على تقديم برامج انتخابية مفصلة وواضحة ومحاسبتها عليها بعد الانتخابات. يمكن تنظيم مناظرات تلفزيونية تركز على البرامج الانتخابية التي تشمل طائفة واسعة من القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تهم الناس وفي مقدمتها سبل تطوير الخدمات والتعهد بذلك، وكذلك ضرورة صياغة الشق السياسي الذي ينسجم ومصالح الشعب والبلد.
ويتوجب ضمان نزاهة وشفافية الانتخابات بتعزيز دور المفوضية المستقلة للانتخابات، وتطبيق نظام اقتراع إلكتروني موثوق، والسماح بمراقبة دولية واسعة.
كما يجب المبادرة الى معالجة جذور المشكلة التي تتطلب إصلاحات سياسية عميقة تهدف إلى تقليل دور الطائفية والمحاصصة وتعزيز المواطنة وسيادة القانون، وتمكين المجتمع المدني بدعم منظماته التي تعمل على توعية الناخبين وتشجيع المشاركة الانتخابية ومراقبة العملية الانتخابية.
وتطوير آليات لمساءلة الأحزاب والسياسيين على وعودهم الانتخابية وأدائهم بعد الانتخابات، سواء عن طريق البرلمان أو بوساطة الرأي العام ووسائل الإعلام، وان تحقيق الاستقرار الأمني وتحسين الأوضاع الاقتصادية يمكن أن يزيد من ثقة المواطنين في المستقبل ويشجعهم على المشاركة في العملية السياسية.
كما يجب تبسيط الإجراءات الانتخابية بجعل عملية التسجيل والتصويت أكثر سهولة ووضوحًا لجميع السكان وتشجيع الأحزاب على تبني آليات ديمقراطية داخلية تسمح بمشاركة أوسع للقواعد الشعبية في صياغة البرامج واتخاذ القرارات.
ويجب النظر جديا في تعديل قانون الانتخابات لجعله أكثر عدالة وتمثيلًا لإرادة الناخبين وتقليل تأثير المال السياسي والنفوذ غير المشروع.
إن معالجة هذه الأسباب تتطلب جهودًا متكاملة من جميع الأطراف الفاعلة في العملية السياسية والمجتمع المدني والإعلام، وهي عملية طويلة الأمد ولكنها ضرورية لبناء نظام ديمقراطي سليم ومستقر في العراق.
ما الذي يجب ان تتضمنه البرامج الانتخابية؟
أولاً: النقاط الاقتصادية، بخلق فرص عمل حقيقية عن طريق توضيح آليات محددة لتشغيل الشباب، كتحفيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ودعم القطاع الخاص، وتقليل الاعتماد على الوظائف الحكومية، وإصلاح النظام المالي والإداري، وتحديد برامج عملية لمحاربة الفساد في المؤسسات الاقتصادية.
وكذلك إصلاح جدي لملف الجباية والضرائب بحيث يكون منصفاً ويُعاد توجيه الإيرادات لتحسين الخدمات العامة، وتنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفط بدعم الزراعة، الصناعة، والسياحة، وتقديم خطة عملية لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية، ودعم الفئات الهشة اقتصاديا.
كما يجب ان تتضمن برامج الأحزاب الانتخابية اساليب دعم للفقراء والعاطلين والأسر المتعففة، سواء نقداً أو عبر سلات غذائية أو دعم للكهرباء والصحة، وتحسين البيئة الاستثمارية بتسهيل إجراءات تأسيس المشاريع، توفير بيئة آمنة للمستثمرين، ومحاربة الابتزاز الإداري والروتين.
ثانيًا: النقاط الخدمية، يجب ان تتضمن برامج الأحزاب والائتلافات، خططهم الفعلية للطاقة الكهربائية والماء الصالح للشرب، بخطة واقعية لتحسين إنتاج وتوزيع الكهرباء والقضاء على معضلات توفيرها، ومشاريع تحلية وتطوير شبكات الماء، والخدمات الصحية وتحسين البنية التحتية الصحية وتوفير الدواء والعلاج مجانًا للفئات غير المضمونة.
كذلك يجب ان تتضمن البرامج الانتخابية، دعم الملاكات الطبية وزيادة أعداد المستشفيات والمراكز الصحية؛ وفي مجال التعليم رفع مستوى التعليم عبر تدريب الملاكات، وتحديث المناهج، وبناء المدارس وتحديد اعداد المدارس الفعلية بحسب حاجة السكان والتعهد ببنائها، ودعم التعليم المهني والتقني المرتبط بسوق العمل؛ كما يجب ان تتضمن البرامج الانتخابية للأحزاب قضايا البنية التحتية والنقل بمشاريع واضحة لإصلاح الطرق والجسور وإنشاء طرق جديدة، وتحسين النقل العام في داخل المدن وبين المحافظات.
اما مشاريع الإسكان فيجب ان توضع في برامج الأحزاب الانتخابية وتكون واجبة التنفيذ إذا فازت، ومن ذلك تنفيذ مشاريع إسكان لذوي الدخل المحدود، وتنظيم التوسع العشوائي وخلق بيئة سكنية منظمة.
ثالثًا: نقاط عامة لتعزيز الثقة منها تحديد جداول زمنية للتنفيذ وبيان المراحل بشكل شفاف، مما يعطي مصداقية للبرنامج، وتوفير آليات رقابة شعبية لتقويم تنفيذ البرنامج وربط الأداء بالوعود، بخطاب واقعي ومباشر يعكس فهم الحزب أو التحالف لمشكلات الناس اليومية ويبتعد عن الشعارات العامة أو الغامضة.
أبرز الأهداف والشعارات لتعزيز الثقة
يمكن ان ترفع الأحزاب والائتلافات المشاركة في العملية الانتخابية العراقية شعارات واهداف محددة تحت عنوان “نحو عراقٍ آمنٍ، مزدهرٍ، وعادلٍ يُنصف المواطن ويحقق التنمية والعيش الكريم لكل فرد”.
إطلاق مبادرة “وظيفتي بيدي” لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بقروض ميسّرة. تفعيل دور القطاع الخاص وتدريب العاطلين بالتنسيق مع الشركات المحلية والدولية. مكافحة الفساد المالي في جميع مفاصل الدولة عبر تشريعات جديدة وهيئات رقابية مستقلة. إصلاح النظام الضريبي بشكل عادل يخفف العبء عن الطبقات الضعيفة.
دعم الزراعة والصناعة الوطنية لخلق فرص عمل وتقليل الاستيراد. إطلاق مشاريع سياحية وثقافية لتشجيع السياحة الداخلية والدينية.
تخصيص دعم مباشر للأسر المتعففة عبر برنامج “الأمان الغذائي المستدام”. تثبيت العمال بأجور يومية وضمان حقوقهم. كهرباء وماء للجميع ومن دون انقطاع. خطة خمسية واضحة لتحسين إنتاج وتوزيع الكهرباء وتقليل ساعات القطع تمهيدا لإلغاء القطع كليا. مشاريع لتحلية المياه في الجنوب وصيانة الشبكات في الوسط والشمال. صحة وتعليم محترم. بناء مستشفيات حديثة في كل محافظة وزيادة التخصيصات للقطاع الصحي.
تحديث المناهج التعليمية، وتوفير جهاز “لابتوب” لكل طالب جامعي “او حتى متوسطة او ثانوية” ضمن “التعليم الرقمي الشامل”. تعبيد الطرق الداخلية والريفية، وربط المحافظات بشبكة نقل آمن وسريع. إطلاق “مشروع السكن الميسر” لذوي الدخل المحدود. تحديد جداول زمنية لكل مشروع، مع نشر تقارير دورية للمواطنين. إشراك السكان في الرقابة عن طريق مجالس محلية شعبية تتابع تنفيذ البرنامج.
ومن المهم جدا الالتزام بألا يكون البرنامج مجرد وعود، بل عقد سياسي وأخلاقي مع المواطن، مدرج في البرامج الانتخابية وبحضور الجمهور المستهدف في اثناء الدعايات الانتخابية والتعهد علنا وامام الجمهور بتنفيذ جميع بنود العهود والوعود.
في الحملات الانتخابية السابقة في العراق كانت مفوضية الانتخابات قد منعت المرشحين والاحزاب كافة من أن تحمل حملاتهم الانتخابية اي افكار تدعو إلى العنف والكراهية والنعرات الدينية والطائفية أو القبلية والمناطقية سواء عن طريق الصور او الشعارات او الخطابات أو وسائل الاعلام المتنوعة؛ غير ان كثيرا من الأحزاب والمرشحين لم تتقيد بذلك، ولجأ المرشحون للترويج لأنفسهم واحزابهم إلى مواقع التواصل الاجتماعي وبخاصة الفيسبوك والمحطات التلفزيونية التي تعقد ندوات للمرشحين، وتميزت كثير من نقاشاتهم بصبغة الطائفية والكراهية والتهجم الشخصي المتقابل، وهذا الأمر يهيئ له البعض الآن اذ صعدوا من خطاباتهم الطائفية بدلا من البرامج الواقعية استباقا للانتخابات العامة المقبلة في تشرين الثاني، بحسب مراقبين.
كما كانت تبرز ظاهرة تمزيق الصور والملصقات الانتخابية كطريقة لجأ اليها البعض للتنافس الانتخابي بين المرشحين والأحزاب، اذ يقوم بعض المرشحين بدفع اشخاص لإتلاف صور خصومهم ومنافسيهم، بحسب المراقبين، ما تسبب بدوره في غياب الثقة بالانتخابات والنظام السياسي والعزوف الكبير عن المشاركة في الاقتراع.