مملكة وأربع جمهوريات

فاضل ميراني*

خرج العراق كما خرجت بقية اقاليم الدولة العثمانية التي آلت للبديل البريطاني ليصار بعد ذلك الى هيكلته السياسية مملكة جديدة و ليعوض فيصل الاول بن الحسين عن عرش سوريا بعرش العراق الذي كان في البدء قد خطط له ليكون لعبدالله بن الحسين شقيق فيصل قبل ان تنتهي الامور لما حدث واقعا، فصار شرق الاردن إمارة لعبدالله، و العراق لفيصل فيما بقي ابنا الشريف حسين بن علي الملك علي و الامير زيد يحتفظان باللقب دون كرسي حكم سيما بعد فترة قصيرة للملك علي على مناطق من الحجاز.

لم تفلح محاولات طامحين عراقيين بالعرش الى نتيجة مرضية، فقد كانت الحسابات الدولية اكبر من اي حق ولو كان مباحا، ومن ضمن الحق المباح الممنوع كان حرمان شعب كوردستان من حقه في إقامة كيانه السياسي المستقل، ومثلما جرى تقسيم الارض جرى تقسيم المجتمع لتبعية مُواطَنية وان كان التقسيم الاخير ليس الاول مثلما لم تكن الخارطة السياسية السابقة هي نفسها القديمة على ايام الدولة العثمانية.

هذا لا يعني ابدا ان الملك فيصل لم يكن جديرا بالحكم، بل النقيض فقد تمتع فيصل بمواهب صقلتها تجاربه المبكرة و الكبيرة في التفاوض و النزاع وكان حاد الذكاء في استيعاب و التصرف مع فكر القوى الدولية، لقد نجح في سنوات قليلة من التفاوض الواقعي المنتج و المربح لمملكته سواء مع ايران او تركيا حليفته ثم غريمته لاحقا و مع بريطانيا و لم يكن ممن يمسكون العصا من المنتصف و لا يلوح بها الا ما ندر، وطبعا هذه الاحكام تتوافق مع تقييمه من قبل نقاده وفق احكام وقته و الان، وحتى مع الصعوبات الاجتماعية التي واجهها الا انه و طواقمه التخطيطية و الادارية تمكن من بناء هياكل عميقة الاساس للدولة الجديدة، و سياسيا لم يكن غيابه خسارة بسيطة سيما وان وريثه غازي لم يكن بمستوى وعي ابيه و ارادته و تأثيره وذلك الفراغ رسم طريقا ليحصل ما حصل من سيطرة انتهت بمأساة تمثلت بسيطرة الامير عبدالاله بن الملك علي( ابن عم الملك غازي و صهره و ايضا هو ابن اخ الملك فيصل الاول و خال الملك فيصل الثاني ووصي عرشه ثم ولي لعهده، مع استبعاد اي دور للامير محمد بن فيصل الاول الذي غدرته الطموحات المستنفرة وغادرته الاضواء) لتقع عملية التحرك العسكري الذي اعلن الجمهورية العراقية الاولى ورئيس مجلس سيادتها محمد نجيب الربيعي الذي غطى عليه عبدالكريم قاسم و على ثنائيه خالد النقشبندي و مهدي كبة، فكان ان اندفعت الامور بشكل غالب نحو سياسة هجينة ظهرت بوادرها قبيل الخلاف بين قاسم و رفيقه عبدالسلام، ومن هناك الى قيام الجمهورية الثانية برئاسة عارف الاصغر ثم الاكبر، التفت الامور من اليسار السياسي المسيطر الى قومية الانقياد نحو الواقع الناصري.

الملاحظات الاساسية هنا ان عصر ما بعد الملكية، والذي اتهمها في دعايته بأنها صنيعة الخارج لم يتمكن من عصمة نفسه عدم الانقياد لخارج آخر، وكان انشغاله بخلق نفسه بديلا، لكنه لم يدرك انه بديل مصاب بحمى سياسية جعلته يتخبط و يستعرض قواه على معارضيه لكنه لايخلو من ضعف بحال يشبه ما وصف به ابو الطيب المتنبي حاله مع الحمّى:

عليل الجسم ممتنع القيام
شديد السكر من غير المُدام.
ليست هذه المقالة في عنوانها و موادها الا لتبيان اهتمامات تلك السلطات بذواتها و تأخر و ابتعاد حيويُ مواضيع عملها عن الخط الاساس، فصارت تمارس اشتراكيتها متأثرة بمفاهيم غيرها و تسلب الحق لتفاوض عليه و مرد ذلك بدرجة كبيرة لسيطرة الفكر العسكري على قاعدة الفكر الحاكم، وهناك تصبع الامور متداولة بين مفاهيم هي الخصوم و العدو و السلاح و التمويل.

شخصيا ارى ان البعث في جمهورية 1968 لم يكن بجمهورية واحدة السياسية ل 2003 بل بجمهوريتين، الثالثة اتت بعد اخذ الحكم من عبدالسلام عارف و الرابعة بعد تنازل او اقصاء احمد حسن البكر.

زعامة مؤثرة
كان الرد المعارض الداخلي متعددا و كان لكوردستان السبق في ذلك من حيث الفارق القومي و الخيار العقائدي و الزعامة المؤثرة، وهي ثنائية مصطفى البارزاني و الحزب الديمقراطي الكوردستاني، اذ حتى قبل الجمهوريات كان الحراك الكوردي مبكرا و كان البارزاني اقدم في التأشير بمؤثر معارض علمته بغداد و علمت جدية مطالبه بعدم اخذ الكورد تحت مظلة سياسية غير عادلة، اذ ان طموحنا و حقنا ليس ان نكون ضمن نظام سياسي، بل ان نعرف الاستعداد لتلبية حقنا و الا فلن ننتظر المِنَح.

كل البيانات و التفاهمات و اتفاقية اذار مهمة، غير انها لم تأت لا هي و لا تلك البيانات بسهولة بل بجهد ودم و معارك وقبالتها فكر سلطة مرتج متلجلج او باطش قاسٍ.

شخصيا ايضا انا ممن يبتعدون عن مصالحات مفرغة او دعوات نسيان تضيع بموجبها مستحقات و جبر ضرر حدثا عمدا، اذ هذا ليس واردا لا شرعا و لا قانونا.

في الجمهورية الرابعة كانت المَقتَلة الاعنف و الاكبر ان بحقنا و ان بحق غيرنا او بحق العراقيين بأغلبهم، اما نحن فقد آلت رابع الجمهوريات على ترضية محمد رضا شاه بهلوي على حسابنا و على سيادة البلد على مياهه مصدر حياته، ثم تحرك جيش الجمهورية الرابعة و اجهزة امنه لمطاردة طرف ملتزم بأتفاقية اذار هو نحن من الطرف الثاني الذي هو السلطة، لنرد عليه بثورة گولان ثورة الربيع، ثم تحول البلد للون عسكري امني تسرط موارد البلاد سرطا للسلاح، وتم شنق رجال دين و يساريين و مستقلين بل تم التخلص من بعثيين و قوميين، وتم دفع مسيحيين للهجرة و تم استهداف الحراك السياسي للتنظيمات الشيعية و القومية التركمانية بقسوة يدرك المها الذين نجوا من جحيم تلك الفترة.

ليس مهما هنا التقسيم بين الثناء و اللعن، بقدر المصارحة بمضمون العقل الحاكم و الجسم المتحكم بمسير و مصير العراق، وهذا السؤال المحوري الذي لابد من طرحه و على المعنيين الاجابة عليه: الجمهورية الخامسة من 2003 هل ستفي بما عليها وهل استوعبت ممن قبلها، وهل تبدل العقل الحاكم ليكون بمستوى المراد لا بمستوى يعتقده هو كما اعتقده الاسبقون انه المراد فأنتهت الامور لما انتهت عنده في 2003؟.

*مسؤول الهيئة العاملة للمكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني

قد يعجبك ايضا