محمد سليم المزوري
ان الجدل استمر بين انصار علمية التاريخ ومناؤيهم وقد ظهر ذلك جلياً في القرن التاسع عشر، حيث منح مؤرخ المدرسة المنهجية (الوضعانية) للتاريخ صفة العلم، باعتبار ان التاريخ لايتم الا بالوثائق وبما ان الوثيقة هي الشاهد على احداث الماضي، فان التاريخ بالنسبة اليهم علم الوثيقة هي الشاهد على احداث الماضي، فان التاريخ بالنسبة اليهم علم. وإذا كان الهدف الاساسي الذي تسعى اليه الكتابة التاريخية هو الوصول إلى الحقيقة التاريخية كما حدث في الماضي إنطلاقاً في الوثائق، فأن السؤال الذي يطرح نفسه بجده هو عن ماهية هذه الحقيقة؟ وهل الحدث التاريخي الذي كتبه المؤرخون يعبر عن حقيقة عما حدث بالفعل؟ أم ان الواقعة التاريخية من صنع مخيلة المؤرخ وحده؟ وبالتالي فهي تخضع للاختلاف من مؤرخ لآخر.
فإذا كان المؤرخ ينطلق في أبحاثه من الوثيقة فان المؤرخ هو الذي يقتضي صفة الوثيقة على هذا المصدر أو ذاك تساؤلاته هي التي تدفعه إلى الاحتفاظ بنوع من الوثائق وترك الأخرى جانباً، فهو لا يحشر نفسه في موقف استقرائي، يخرج الاحداث منا لوثائق بل يقوم بجمع الوثائق ويعمل على تنظيمها وتوزيعها وترتيبها وفرز الملائم منها، ثم يقوم بطبخها ومن يقدمها بالاسلوب الذي يروق له.
ان المؤرخ اثناء مراحل إنجاز عمله يلجأ إلى انتفاء مصادره ووثائقه فهو يقوم بعملية اختيار مما يطرح اسئلة جديدة حول نوعية الوثائق التي اعتمد عليها ومدى مصداقيتها، ومن كتبها وهل هي رسمية أو غير رسمية؟ ثم الا يقوم المؤرخ باختيار وثائق معينة على حساب أخرى ربما فقط لتعزيز نتائجه لكي تتوافق مع فرضياته المطروحة مسبقاً؟
ثم ما هي حدود الذاتية والموضوعية في الكتابة التاريخية؟ إن مثل هذه الأسئلة وغيرها تجعلنا على يقين تام هن أن المؤرخ لا يمكنه ان يكتب تاريخاً حقيقاً، فثقافة المؤرخ ومنهجيته وتوجيهاته الفكرية والثقافية وخلفياته الايديولوجية والعقدية تلعب في كثير من الاحيان دوراً كبيراً في صناعة الحدث التاريخي بطريقة دون الأخرى.
يقول البروفيسور (اوكشوت) مؤكداً هذه الحقيقة هو (التاريخ هو تجربة المؤرخ، انه ليس من صنع أحد سوى المؤرخ، وكتابة التاريخ هي الطريقة الوحيدة لصنعه، فالتاريخ لا وجود له الا في ذهن المؤرخ فالماضي زال وانقضى، واخباره الموجودة في الكتب هي من صنع المؤرخ وحده، ومن ثم لم تعد الوثيقة تلك المادة الجامدة التي يحاول المؤرخ يقوم عملية بناء جديدة، وعليه فان الحقائق التاريخية لا يمكنها من تضلنا كاملة، ولذلك تختلف الرواية السردية من مؤرخ لآخر، لأنها تعتمد على القاعدة التالية (إجمع وقاعئك أولاُ ثم قم بتحليلها، وأقحم نفسك في خطر رمال التأويل والتفسير) ومن ها يتضح لنا جلياً انه لا يمكن عمليا كتابة التاريخ كما تم فعلا، وبشكل مطابق لما وقع في الماضي، ولكن كما نعتقد انه كان، إن الأمر أشبه ما يكون بإعادة مباراة في كرة القدم بين الفريقين بنفس الطريقة، وهذا شيء مستحيل، فالتاريخ لا يعيد نفسه مرتين، لأنه محدود في الزمان والمكان ويتجه دائماً إلى الامام دون تكرار أو رجوع إلى الوراء.
وهكذا يبقى التاريخ دائماً ميداناً مفتوحاً للبحث والمراجعة كما بقيت الحياة مجالاً للاكتشاف وكلما بقي العقل البشري قادراً على التنقيب والتجديد.