حيدر فليح الشمري
في زمن تتكسر فيه الأوطان كما تتكسر المرايا المهجورة ، تقف النخب أمام التاريخ ، لا كترف فكري ، بل كضرورة وجودية ، ليس الوقت وقتَ ترفٍ ، ولا المزاج مزاجَ خطابات ، بل هو زمن الاحتراق ، حيث تُختبر معادن الرجال والفكر .
في الشرق الأوسط ، حيث يئنّ التراب من شدة النزيف ، تتلاشى الدول ما لم تتكئ على من يملكون البصيرة قبل البصر ، والفكر قبل الفعل ، والضمير قبل المصلحة ، النخب أولئك الذين صقلتهم المعرفة والتجربة ، لا يُفترض بهم أن يكونوا متفرجين على انحدار الواقع ، بل قادةً في متاهة الخراب ، يرسمون خرائط الخلاص من بين الأنقاض .
لقد أثبتت الظروف الراهنة أن الدول التي غابت عنها النخب الحقيقية ، غرقَت في صراع العوام وتخبط الشعارات ، أما حين يعلو صوت العقل وتتصدر الكفاءات المشهد ، تستعيد الدولة نبضها شيئًا فشيئًا ، كمن يخرج من غيبوبة طويلة نحو الضوء .
وقد قال المفكر العراقي علي الوردي ، “المجتمعات لا تتقدم بالشعارات وإنما بالعقول المفكرة التي تدرك الواقع وتتخطى عقباته” ، وهي مقولة تختصر دور النخب في إعادة بناء الإنسان قبل العمران .
لكن النخبة ، لا تُقاس بشهاداتٍ معلّقة على الجدران ، بل بمواقفها حين تشتدّ العواصف ، النخبة الحقيقية هي التي ترفض أن تكون بوقًا ، وتختار أن تكون بصيرةً وسط العمى ، هي التي لا تبيع فكرها على أرصفة السياسة ، بل تسير وحدها ، ولو كانت الطريق موحشة ، نحو ما تراه صوابًا .
لذلك لا تنجو الأوطان بصرخة ، بل بفكرة ، ولا تُبنى بالجموع الغاضبة ، بل بالعقول الهادئة ، وما بين هدير الشعوب وصمت الأنظمة ، تبقى النخبة وحدها ميزان النجاة أو الهلاك ، وفي العراق، حيث تتصارع التحديات والهويات ، تظل النخب العراقية الأصيلة هي الجسر الحي بين تراث عريق وحاضر متخبط ومستقبل مرهون بمن يدركون أن الوطن ليس حدودًا وشعارات ، بل روح وفكر ومسؤولية .