إبراهيم اليوسف
تصنف في علم النفس الاجتماعي، بعض الأفعال الفردية أو الجماعية بوصفها نِتاجًا لتشوّهات في الإدراك تُزرَع منذ الطفولة، وتُغذّى عبر سنوات القهر، والخذلان، والحاجة إلى النجاة. حين يكون الإنسان من جماعة محرومة، مُهمّشة، مَنزوعة الاسم واللغة والرمز، ينشأ داخله شعور بالدونية لا يختار أن يحمله، لكنه يتعلّق به كعبء وجودي لا يُفكّ عنه بسهولة.
ولعلنا نجد ظهور مثل هذه العقدة في الحالة الكردية، لدى بعضهم، في أبشع صورها، من قبيل: ممالقة الآخر القوي، افتراضاً، حتى وإن كان في حضيض ضعفه، والتنمر على القريب المُشابه، حتى وإن كان في ذروة قوته وتميّزه، والأمر- هنا- ليس خيانة بالمعنى الكلاسيكي، بل هو مرض. عقدة. هو جلد ذاتٍ داخلي، مقنّع بعبارات “الواقعية”، و”التمدّن”، و”النقد البنّاء”.
فما إن يدخل هذا النموذج الشاذ غير المعمم- فضاءً فيه سلطة افتراضية تنتمي إلى مفردات القومية الحاكمة: متراوحة بين: سلطة اللغة. سلطة الاسم. سلطة الثقافة. قبل امتحان السلطة الفعلية- حتى يتلعثم. يظهر كمجرد ممثل. يتبدّل صوته، نَبرة حديثه، وحتى طريقة جلوسه. تتغيّر لهجته، يختار كلماته بعناية فائقة، يبتسم أكثر من اللازم، يُكثر من الإطراء، ويُخفف من أي رأي قد يُعتبر “تمردًا”. هو في حضرة المقدّس الاجتماعي، الذي تعلم أن يهابه منذ المدرسة الأولى حين مُنعت عليه حروف اسمه، فاختبأ داخل الأسماء المستعارة، والمواقف المستعارة، والضمائر المُستأجرة!؟
لكنّه حين يصطدم بابن جلدته، يتبدّل. فلا يعود ذاك المتواضع اللطيف، بل يستأسد. يُكثر من النقد، يرفع صوته، يتشدق بـ”الموضوعية”، وكأن الدفاع عن الذات جريمة، والاعتزاز باللغة القومية محض تخلّف.
إذ أننا نجد مثل هذا النمط من ذوي العقد، في المواقف العامة، يتبنون ذروة المواقف الحداثية. يقول ما لا يجرؤ على قوله في بيته- لا سيما في حضرة امرأة- ويتحدث عن القيم العالية، و”التعايش”، و”الجمال الإنساني”، لكنه حين يرى فتاة كردية تكتب شعراً، أو تقف على منبر، يشعر بالحرج منها. يُقلل من شأنها، يشكك في قدراتها، يهمس في أذن بعض من حوله: “من هي؟”، “من وراءها؟”، يشعر بأنها تسرق منه دور البطولة في الحضور الرمزي، فيمارس تنمّره بلباقة، لكن بمرارة.
بينما نجده فيما إذا دار نقاش سياسي أو فكري بينه وبين كردي آخر، يُخرج مخالب لم نرها في مواجهة أي خصم حقيقي. يصرخ، يسخر، يهاجم، يصف الآخر بالجهل، ويستدعي قاموسًا من الشتائم المقنّعة. لكنّه إذا واجهه مثقف ممن ينتمون مصطلحياً إلى “الآخر”، ولو كان أقل علمًا، ابتسم، ناقشه بلطف، وكبح جماح لجج عالمه الداخلي بلباقة. ويمكن السؤال هنا: لماذا هذا الفصام؟ لماذا تحدث هذه المفارقة؟ للإجابة على هذا السؤال أو ذاك فإنه علينا أن نعلم أن العقل الباطن- لدى مثل هذا الأنموذج- لا زال يقول له: أنت في حضرة القوي، فحافظ على شعرة معاوية، لعلها توصلك إلى منصب أو فرصة.
وقد نجد فتاة كردية وهي تكتب منشوراً مائزاً، بحق، فتكاد ألا تجد تعليقاً يُذكر، من قبل معني حقيقي. وعندما ينشر شاب كردي موهوب رأيًا حُرًا، أو حتى كتاباً، فيُجابه بالصمت أو التجاهل أو التنمّر. لكن ما إن تكتب فتاة مغمورة من مركز السلطة، حتى تنهال القلوب الحمراء، والتعليقات المُعجبة، والإشادات التي لا تنتهي. إن العقل الباطن يعمل- في هذه الحالة- كمدير دعاية خفي، من خلال شعار ضمني مفاده: “أظهر احترامك للآخر كي يُعجب بك! أما القريب؟ فهو لا يمنحك اعترافًا يُكسبك مكانة!”
كثيراً ما يقدم هذا النموذج شهادة ضد أهله، فيتم استغلالها ليقال: شهد شاهد من أهله! فتُحوَّل كلماته – دون وعي منه أحيانًا- إلى وثائق تُسوغ بها سلطة القامع، ويُستشهد بها لنفي الظلم التاريخي، وليُقال إن ما يُقال عن التهميش مجرد تهويل. هو لا يدرك أنه حين يُهين ذاته، يمنح خصوم قومه سلاحاً لا ينضب، وذخيرة مجانية لتشويه النضال، وتفريغ القضية من مضامينها.
ولا بد من التأكيد هنا أن النقد ضروري، بل وواجب، لكنه إن لم يكن من موقع الغيرة والمسؤولية، تحول إلى صورة من صور التنكّر للبيت الأول. فالتدليس على أهل البيت، وتجميل وتبييض صفحة الآخر، والتماهي معه بدعوى “الموضوعية”، ليست من النضج في شيء، بل هي انفصام داخلي، وازدواجية قيم، وتخلي عن الدور الطبيعي في صناعة الوعي.
هذا السلوك ليس ناتجًا عن خبث، بل عن خلل في بناء الهوية. حين يعيش الإنسان حياةً بلا اعتراف رسمي، وبلا لغة وطنية، وبلا رموز مسموح بها، يُصاب بحالة من اضطراب الهوية، فيبدأ بتقمّص شخصية الآخر، والسخرية من ذاته. إنه- بحق- لا يكره قومه البتة، بل يكره التشابه الذي يربطه بجماعة مسحوقة. لذا فهو يحاول التحرر من ذاته، بالنقد الأجوف، والتهكم، والنفخ في فقاعة “الاختلاف”.
لكن حين تقع الكارثة، كما حدث في عفرين، أو كوباني، أو شنكال، أو كما حدث من قبل أو يحدث في: حلبجة، أو آمد، أو مهاباد، ترى هذا الكردي يعود غريزيًا إلى حضن قومه، يبكي معهم، يكتب عنهم، يحمل صورهم. ثم، ما إن تمرّ العاصفة، حتى يعود ليُهمّشهم، كأن الأمر لديه انتخاء موسمي، مرتبط بالشعور بالخطر لا بالانتماء الحقيقي.
لا بدَ من أن نعترف أنه لا خلاص من هذه العقدة إلا بإعادة بناء الذات، بوعي حر، لا يخاف من سلطة الآخر، ولا يشعر بالعار من هوية مُقاومة. بالنقد البنّاء، لا السخرية المريضة. بالاعتزاز لا بالعنجهية، بالاحترام لا بالتذلل.
إنما- هنا- أمام درس صعب، لكن لا أمة يمكن أن تنهض إن كان بعض بنيها يعانون- لا سيما ممن يُعدّون من النخبة- من عقدة الفصام تجاه أنفسهم. فليس الكردي عدو الكردي، بل هو ضحيته، أيضاً، في بعض الأحيان. والنجاة لا تكون بمحاكاة السيد، بل بتحرير النفس من داخله. ولا كرامة لإنسان يُرضي غيره بجلد ذاته.