خيري بوزاني
عندما كان فيه النفوذ يُقاس بالشعارات الرنانة، وامتلاء بطون السجون، وانتشار الخوف والرعب في الشوارع، اختار صدام حسين أن يمنح العراق محافظة تاسعة عشرة جديدة، لكن ليست من الجغرافيا العراقية، بل من شرق الخليج. الكويت، تلك الدولة الصغيرة والوديعة والمسالمة، تحولت فجأة إلى “المحافظة 19” باسم التوسع القومي ومكافحة الإمبريالية، أو كما كان يُطلق عليه في نشرات الأخبار حينذاك: “استعادة التاريخ أو عودة الفرع إلى الأصل”!!. والنتيجة؟ حرب، وخراب، وحصار، وفشل ذريع وعقوبات لا تزال أعباؤها تثقل كاهل العراقيين حتى اليوم.
لكن القصة لا تتوقف هنا. ففي الوقت ذاته تقريباً، كانت حلبجة الكوردية، الحلم بين الجبال، تواجه نوعًا آخر من الضم… لكن الضم تحت سحابة من الأسلحة الكيميائية، في جريمة إبادة جماعية، حيث لم يكن الرقم فيها خريطة، بل عدّادًا للجثث.
وُجّه العراقيون بين خيارين: إما أن تُحتل أرضك، أو تُباد. وبينما سعى الزعيم الواحد الأوحد إلى توسيع الحدود جنوبًا، ضيّق مساحة الحياة شمالًا. هكذا تفكر السلطة، بخيال يتجاوز حدود العقل والمنطق.
اليوم، وبعد أكثر من ثلاثة عقود على تلك المراحل المظلمة، يعيد التاريخ تقديم الرقم 19 بطريقة وصياغة مختلفة إلى الواجهة. حيث قرر البرلمان العراقي، اعتبار حلبجة المحافظة التاسعة عشرة للعراق. المفارقة أن الرقم الذي أراد الديكتاتور إلصاقه بالكويت، يُمنح أخيرًا لمدينة كانت رمزًا لمشروع موت كيميائي.
إنها ليست مجرد صدفة، بل نكتة سوداء تعكس تاريخ بلدٍ يدفع باستمرار ثمن طغاته من روحه، وأطفاله، وحياته، وكأننا في قصة بيروقراطية لا تنتهي، حيث تُوزع الأرقام كجوائز ترضية بعد مآسي الدم.
فهل أصبحت حلبجة حقًا “محافظة” الآن؟ أم تظل مجرد ملف مؤجل في ذاكرة المأساة؟ وهل يشفيها الرقم 19 من أثر الغاز في لياليها الطويلة؟ لا نعلم.
كل ما نعرفه أن التاريخ حين يعيد نفسه في العراق، لا يفعل ذلك كمهزلةٍ للعبرة فقط، بل كمجزرةٍ بتوقيع وبصمة وختم حكومي.