حوار : عطا درغام.
الجزء الثاني والأخير
الكاتب الذي نلتقي به اليوم ، واحد ممن غربلوا التربة المصرية بحثا عن كنوزها المدفونة. في أقصى شمال مصر ، يعيش ويكتب منذ سبع وخمسين عاما.
بدأ مسيرته مع الشعر لكن حدث أن تحول بقوة إلى السرد فأنجز ثلاثين مجموعة قصصية في ربع قرن، فاز أغلبها بجوائز مصرية وعربية.
مدينته دمياط طبعته بطابع الجدية والدقة والاستمرار ، ورغبة دائمة في تجويد أدواته، وتنويع موضوعاته، والنظر عبر زاوية غير مطروقة من زوايا الحياة.
حول المقهى إلى ندوة أدبية يومية لمناقشة النصوص الشعرية والقصصية مع وجود كوادر في الموسيقى والفن التشكيلي والمسرح . صار يأتي إلى هناك كتاب وفنانون ليلتقوا بكتاب هذا المقهى الفريد في طبيعته.
يعتقد سمير الفيل أن دوره في الحياة أن يكتب باستمرار ، دون توقف لمحاولة فك شفرة الحياة، وفهم حكمتها وقوانينها، ربما يسهم إسهاما قليلا جدا في التعبير عن الناس : آلامهم، أحلامهم، صبواتهم .
فاز بجوائز مهمة : أول جائزة في أدب الحرب عن قصة ” في البدء كانت طيبة ” 1974، جائزة الدولة التشجيعية 2016، جائزة يوسف أبورية باتحاد الكتاب 2017 ، جائزة ساويرس في القصة القصيرة 2020، وتأتي محطة مهمة في مسيرته حين حصد جائزة الملتقى للقصة العربية في دورتها السادسة بالكويت 2024.
“أنني ابن حارة شعبية ، تنقلت بين أكثر من بيت : سوق الحسبة ، حارة معري ، حي النفيس ، الشرباصي وعلى مقربة مني جامع الشيخ مفتاح. في هذه المناطق التي ذكرتها وغيرها استلهم قصصي ، فمثلا كل نصوص ” صندل أحمر ” 2008 انتزعتها من الشارع التجاري ، وأبطال ” مكابدات الطفولة والصبا “، يوليو 2007 أخذتها من شارع البدري ، ونصوص ” هوا بحري ” 2010 انتزعتها من تجوالي في عزبة البرج ورأس البر والجربي والشيخ ضرغام وكفر حميدو .بل أن نصوص ” حذاء بنفسجي بشرائط ذهبية ” 2013 استوحيت أحداثها فترة عملي بمهنة بيع الأحذية ، قرب جامع البحر ، وهكذا”
* ما أثر البحر في إبداعك..؟
ـ طول الوقت ظللت قريبًا من البحر مع أصحابي ، نسعى إليه كل يوم جمعة ، يحملنا ” اللنش ” بقرشين، نقضي أغلب الوقت بين أمواجه. الغطاسون يلوحون بالرايات السوداء والحمراء في أوقات هجوم الموج ، أما في الأيام الهادئة فلا ترى الرايات.
أتذكر قصة لصبري موسى تجري أحداثها قرب البحر ، اسمها ” الوولف” ياله من قاص نادر.
* حدثنا عن تأثير الجوائز علي إبداعك..؟؟ وما أهم الجوائز التي حصلت عليها..
ـ يسميني بعض الأصدقاء ب” صائد الجوائز ” ، ولا أهتم بالتعريفات بل بالنص الأدبي. حين أمسك القلم أنسى كل شيء إلا أمر واحد ، أن أجود أدواتي ، وأطورها ، وأن أسعى لضرب سقف التوقع، وأن أجرب ما حدثني عنه الشاعر العراقي سعدي يوسف:” في الفن منطقة للعب الفني الحميد” وأضيف : ” أنه في كل مرة أمسك بالقلم أجرب طرائق جديدة في معالجة القضايا التي أتناولها ” .
كتبت عن الطفولة ، وورش الموبليات، وكتبت عن الحرب وأيام التجنيد ومناورات الخريف، كتبت عن الخروج لبلدان عربية وكيف تعاملت مع حياة مختلفة بنفس فكري الثابت حيث أقبل التنوع وأرفض ” القولبة “.
أنا ابن حضارة عريقة اهتم بمفرداتها جدا . سافرت إلى الأقصر وأسوان والمنيا ، زرت المعابد الفرعونية السامقة ومقابر بني حسن والمسلة الناقصة ورحت للواحات ، وزرت معالمها القديمة.
في كل شبر في مصر هناك تحت التراب أثر أو حجر ، تلك بصمة الأسلاف. أعتز بجذوري وأهتم جدا بكل جديد في عالم المصريات ولي أصدقاء من كبار الأثريين ، منهم عاطف أبو الدهب ورضا الباز ، في مبادرة ” في حب نجيب محفوظ” استعنت بهما في لقاءات المقاهي .
* لماذا الشكوى الدائمة من غياب النقد والإدانة القوية لعجز النقاد عن مواكبة الإبداعات الأدبية الجديدة؟
ـ هذا الأمر لا يخصني، فمنذ بداياتي الأولى تناول النقاد أعمالي ، أولهم عبدالتواب يوسف وليس آخرهم اعتدال عثمان ، وشريف الجيار الذي كتب عن إنجازي الأدبي في احتفالية ” تكريم الشارقة” ، 2 مايو 2022.
في ثلاث كتب سجل الكتاب : جمال سعد محمد، وابراهيم حمزة ، وفكري داود، النتاج النقدي الذي تناول أعمالي .
من الاسماء التي أتذكرها : الدكتورة وجدان الصائغ، الدكتور ابراهيم منصور ، الدكتورة شهلا العجيلي ، الدكتور عيد صالح، أنيس البياع، سيد الوكيل، الدكتور ياسر ثابت، الدكتور سيد محمد قطب، الدكتورة فاطمة الصعيدي ، أحمد فضل شبلول، الدكتورة رشا الفوال ، الدكتور سعيد الوكيل، إيمان الزيات، منى منصور، الدكتورة عزة بدر، فرج مجاهد، سيف بدوي ، وآخرين.
* هل تنوع الإبداع عند المبدع في صالحه أم ضد إبداعه، وعليه التركيز في نوع أدبي واحد..؟….لماذا..؟
ـ لا توجد قاعدة حاكمة . شخصيًا، تعرضت لتلك المحنة حتى وجدت الأقطاب يفعلونها : صلاح عبدالصبور ، طه حسين، علي الراعي ، عبد الحكيم قاسم، جمال الغيطاني ، عزت القمحاوي .
من الجيل الأحدث : الدكتور شريف صالح، ومحمد بركة ، ورشا عبادة، هبة الله أحمد . المهم حين تهم بالكتابة، تنسى كل شيء عدا الجنس الأدبي الذي تكتبه. كنت صارمًا مع نفسي حين حبست الشعر في صدري ،كذا الرواية والمسرح واكتفيت بالقصة القصيرة وبعض المساهمات النقدية البسيطة.
* إلي أي مدرسة أدبية ينتمي سمير الفيل…؟
ـ هي مهمة النقاد ، وإن كنت أميل إلى أن أصنف واقعيًا مع لمسة غرائبية محدودة. في نفس الوقت أنا مفتون بالكتاب الروس وأفضل ديستوفيسكي على مكسيم جوركي ، وبوشكين عن ماياكوفسكي.
“لست كاتبًا مجدولًا ، كما أنني في ذات الوقت لا أضيع الوقت في ترتيب مواعيدي. اترك نفسي على سجيتها ، أكتب في الوقت الذي أشعر بنفسي تواقة للكتابة فأتبعها بهدوء ، وأنا ممتن لتلك” النداهة ” التي لا تمارس علي أي ضغوط من أي نوع، بل تأخذني على قد عقلي”
* ما معني أن سمير الفيل “ظلّ مسكوناً بحارته الصغيرة، وظلت الحارة تسكنه”..؟
ـ هذا ليس مقصود بتاتًا، كل ما في الأمر أنني ابن حارة شعبية ، تنقلت بين أكثر من بيت : سوق الحسبة ، حارة معري ، حي النفيس ، الشرباصي وعلى مقربة مني جامع الشيخ مفتاح. في هذه المناطق التي ذكرتها وغيرها استلهم قصصي ، فمثلا كل نصوص ” صندل أحمر ” 2008 انتزعتها من الشارع التجاري ، وأبطال ” مكابدات الطفولة والصبا “، يوليو 2007 أخذها من شارع البدري ، ونصوص ” هوا بحري ” 2010 انتزعتها من تجوالي في عزبة البرج ورأس البر والجربي والشيخ ضرغام وكفر حميدو .
بل أن نصوص ” حذاء بنفسجي بشرائط ذهبية ” 2013 استوحيت أحداثها فترة عملي بمهنة بيع الأحذية ، قرب جامع البحر ، وهكذا.
أميل إلى أن أكتب عما أعرفه ، وعن تجارب حقيقة مررت بها طوال حياتي . الكاتب الذي لا يمتلك تلك الوصلة الحقيقة سوف تتبدد أعماله حتما. إضافة إلى كوني أهتم بالهامش ، وانظر إلى المتن بقلق وريبة؟!
* هل فوزك المتكرر بجوائز القصة القصيرة جعلك تهجر الشعر..؟
ـ حين ارسلت قصصي الأولى للقاص العظيم إبراهيم عبدالمجيد، حملها إلى ” إبداع ” ،ونشرت بالعدد الثاني بعد قصة يوسف إدريس مباشرة.
وقتها كنت مصنفا كشاعر، وكتب عني مجموعة من النقاد بل حضرت ندوة شعر العامية مع صلاح جاهين، وعبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب، ومن جيلي عبد الدايم الشاذلي ، وماجد يوسف ، ومحمد كشيك، وعمر نجم وصلاح الراوي ، ورجب الصاوي وجمال بخيت .
ثمة هاجس كان يلح عليّ، يهاجمني بشراسة ، أنني أنتمي إلى السرد أكثر ، تأكد لي هذا الانطباع وأنا ألقي قصيدة ” النول” في المؤتمر الأول لأدباء مصر بالمنيا 1984 ، إذ همس الدكتور سمير سرحان في أذن الدكتور عبدالقادر القط: هنا قص. فأكد له صحة ما يقول.
* ما دور الدكتور عبد القادر القط في مسيرتك الإبداعية..؟
ـ بطابع البريد نشر لي الدكتور عبدالقادر القط حوالي عشرين قصة دون أن يراني . تقابلنا أخيرا في مطار القاهرة الدولي حين كنا ذاهبين للمشاركة في مؤتمر العقاد الدولي 1990 . قال الدكتور القط لصديقه الدكتور مصطفى محمد الشكعة: هذا الشاب من كتاب ” إبداع” الموهوبين.
لقد كان موقفه من الأجيال الجديدة محل ثقة وحب وامتنان، ذلك أن جودة النص هو العنصر الوحيد الذي يجيز نشر نص من عدمه.
* من هم أصدقاء مقهي العيسوي في دمياط..؟ و فيم يدور نقاش المقهي..؟
ـ بدأت التجربة بشكل بسيط مع فكري داود وحلمي ياسين وصلاح عفيفي ثم انضم إلينا عابد المصري وعزت الخضري ، والماجن توفيق فودة ، والممثل المسرحي ناصر البشوتي ، ثم تحولت الجلسة لقراءة النصوص الجديدة وإلقاء أضواء نقدية عليها : الدكتور عيد صالح، سيف بدوي ،صلاح مصباح وفنان الكاريكاتير محمد عز الدين .. يأتي الينا أصدقاء من بورسعيد والمنصورة وكفر الشيخ والشرقية ، وأحيانا يحضر أكاديميون مثل الدكتور عبدالرحمن الوصيفي ، الدكتور إبراهيم منصور، الدكتور محمد ماهر ، وفي العيد الأخير جاءت الدكتورة سامية حبيب من أكاديمية الفنون.
وهناك جيل شاب يجلس معنا ليعرض إنتاجه ، منه: يوسف عزب، يوسف عشري، يوسف موافي ، محمد الجيوشي .
النصوص الجديدة محل اهتمامنا الأول ، وأحيانا نناقش قضايا ثقافية كالترجمة بمدخل الدكتور يوسف بدر، أو البعد السياسي والجمالي في النصوص لصلاح مصباح، وأحيانا تكون جلسة شعرية: أيمن عباس هاشم، رياض المندراوي ،أبوالخير بدر ، والمصور: الدكتور كريم النجار ، والمصور: محمد شميس ، وهكذا.
كتب عن الجلسة نقاد وصحفيون ووصل صيتها للدوحة وعمان والكويت وبلاد المغرب العربي.
* “أنا كاتب مزاجي، لا أحدّد أوقات للكتابة ولا للذهاب إلى المقهى، أحياناً أمتلك مادّة لكتابة أكثر من قصّة في جلسة واحدة”.. نرجو توضيحًا أكثر..؟
ـ لعلي كنت أوضح بعض النقاط الغامضة أو الملتبسة، لست كاتبًا مجدولًا ، كما أنني في ذات الوقت لا أضيع الوقت في ترتيب مواعيدي. اترك نفسي على سجيتها ، أكتب في الوقت الذي أشعر بنفسي تواقة للكتابة فأتبعها بهدوء ، وأنا ممتن لتلك” النداهة ” التي لا تمارس علي أي ضغوط من أي نوع، بل تأخذني على قد عقلي. .
نقطة أخرى : إذا ما وجدت نفسي في ” طقس كتابي” مبهج، لا أترك القلم قبل أن أكتب أكثر من قصة، فهي لحظات نادرة، انتزعها من فم الزمن. فعلت ذلك في مجموعاتي الاخيرة ” ملح على المائدة ” ، ” ضلع هايك” ، ” أرصفة قديمة ” ، هيا إلى المناحوليا” ، كلها كتبت ما بين 2019 ، 2023 ونشرت في ديسمبر 2024عبر دور نشر مختلفة .
* ما تأثير نجيب محفوظ علي إبداع سمير الفيل..؟
ـ أحببت الرجل، وتعلمت من كتاباته أمرين: المتعة ، والرقة في اختيار الكلمات.
كان من حسن حظي أن أحضر حفل تكريمه في قصر العروبة ، نوفمبر 1988 ، قدمني يومها صبري موسى للثنائي أحمد رجب ومصطفى حسين. وقد منح يومها نجيب محفوظ قلادة النيل، ووزع على الحضور كتاب نقدي للدكتور غالي شكري ، وعدة لوحات للفنان صلاح عناني.
* بعد نصف قرن من الإبداع.. ماذا أعطتك الكتابة..؟
ـ القليل من الفرح، الكثير من الألم. لقد منحتني ضعف عمري من التجارب ، واجتراح المتعة ، ومعرفة أجيال جديدة بكتاباتي رغم أنني أسكن الهامش، ولست مستعدا لمغادرته.
* لماذا التعاسة والحزن في بعض أعمالك كما في “أتوبيس خط 77″….؟وأين التفاؤل الأمل عند سمير الفيل..؟
ـ ربما لموت أبي المبكر وعمري عام ونصف ، وربما لأنني فهمت ” أزمة الوجود” وعاينتها مبكرًا ووجدت أن الاقدار والظروف والمصادفات تلعب الدور الأكبر في حياتنا. لكن من يعرفني يدرك على الفور أنني شديد الفرح بالحياة وأنتظر يوميًا الشمس لأرى كيف سيكون شكل الوجود في عوالمي ، وأظل أحدق في نقطة بعيدة آخر الأفق ، منها تنطلق جملة افتتاحية لنص قادم. أليس هذا كافيا للفرح الإنساني العميق؟
* “السرد يسعفنى بتفصيلات أكثر .. و يجعلنى أضع قدمى بثبات على أرض الواقع”.. هل معني هذا أن الشعر يقيد ولا يعطيك مساحة من الإبداع..؟
ـ الشعر ندهة : سمو ، علو ، ارتقاء ، السرد : أنت على أرض الواقع وقدميك تلامس الأسفلت.
* ما أثر الطفولة في مسيرتك الإبداعية..؟
ـ هي منجمي الخاص ، أذهب إليها من وقت إلى آخر ، واضعها في مكان أمين بالذاكرة التي بدأت تخذلني جزئيا في عامي الخامس والسبعين؟!
* كيف وفقت بين مسيرتك المهنية كمدرس ومسيرتك الإبداعية..؟. وماذا أضاف عملك كمدرس إلي إبداعك..؟
ـ كنت مدرسا مميزا جدا، استخدمت المسرح في التدريس ، وفي العام 1974 أخرجت لي فاطمة المعدول مسرحية ” الأراجوز” من يومها أكتب لمدارس محافظتي بلا توقف.
* في (مكابدات الطفولة والصبا) جاء التعبير عن الطبقات الشعبية والتحدث عن آلامهم وهمومهم وبلسانهم. .هل هذه الواقعية جاءت استمرارا لطابع الحزن المسيطر علي أعمالك..؟
ـ قال لي حسين البلتاجي ـ قاص من قرية شرباص قرب فارسكور ـ مرة وأنا أحاوره: ” العالم من حولي مليء بالمشاكل فلماذا تطالبني بالبهجة في اعمالي القصصية” .
سأعدل الإجابة لتكون هكذا: ” بالرغم من وجود فروقات بين الواقع المعيش والكتابة فهناك منطقة مناورات مشتركة تتمثل في الوعي فيما يحيط بالبشر من انكسارات، ومكابدات ، وضغوط متزايدة، للقهر السلطوي أو المجتمعي. هكذا يتشكل النص.
* لماذا تخليت عن الواقعية وجنحت نحو الخيال الجامح في مجموعة “هوا بحري”..؟
ـ هكذا جاء انفلاتي من الخبرات السابقة وتهيأت للفرح بالأزرق: البحر، السماء ، نقاط الحبر.
* كلمة اخيرة. بماذا تصف رحلتك مع الكتابة.
ـ وجدت في الكتابة خلاصي من العزلة ، فهمت الحياة بشكل أفضل ، اقتربت من البشر وأدركت فجيعتهم الأبدية ، في نفس الوقت شكلت الكتابة بالنسبة لي أكثر من مجرد عزاء .. ربما عطية من الرب كي أهدأ نفسا وأطيب روحا .
سمير الفيل
3 أبريل 2025.
أهتم بالهامش ، وانظر إلى المتن في قلق وريبة؟!