د. ابراهيم احمد سمو
(1)
الرئيس مسعود بارزاني… بوابة
التوافق العراقي وأمل استقراره
في المشهد السياسي العراقي، بات واضحًا أن مفتاح الحلول والتوافقات، وإمكانية تحقيق أي مخرجات إيجابية، يمرّ عبر الرئيس مسعود بارزاني، القامة السياسية التي أبت يومًا أن تكون طرفًا في الصراع، بل اختارت منذ البداية أن تتخذ من “الأخاء” عنوانًا، ومن “التوافق” نهجًا، ومن “الدستور” حكمًا يحتكم إليه الجميع.
لم يعد سرًّا أن بوصلة التفاهمات الوطنية تتوقف عند هذا الرجل الذي جسّد روح الشراكة الحقيقية، فصار حجر الأساس في أي عملية سياسية ناجحة. من دون قرار الكورد ومشاركتهم، لايمكن للعراق ان يستقر، لا داخليًا ولا خارجيًا. لقد أدرك الجميع أن عراقًا يتجاهل الكورد، هو كيان في عداد الموتى، أما إن اقترب من الكورد واحترم وجودهم، فإنما يكتب لنفسه شهادة حياة.
لقد تأسست الدولة العراقية الجديدة بمد اليد من أربيل، ومن هناك انطلقت أولى الخطوات الجادة نحو بناء شراكة حقيقية. تلك الأيام التي مكث فيها وفد كوردي و الرئيس مسعود بارزاني لأكثر من 55 يومًا في بغداد من أجل التفاوض على الدستور لم يكن حدثًا عابرًا في التأريخ، بل كانت اللبنة الأولى في جدار الشراكة، التي شكّلت الوجود الكوردي والمشاركة الفعلية عاملاً حاسمًا في إنجازها.
لقد أيقنت القوى السياسية العراقية اكثر من أي وقت مضى أن مفتاح النجاح في أي تشكيل حكومي، أو أي مبادرة مصيرية، يبدأ من بوابة الرئيس مسعود بارزاني. لا نجاح يُكتب لأي مشروع سياسي، ولا استقرار لأية حكومة، من دون جولة مكوكية تبدأ من أربيل، وتنتهي بكلمة رضا من الزعيم الكوردي، الذي بات يمثل المرجعية الأكثر قبولًا واعتدالًا، لا في الشارع الكوردي فحسب، بل في الشارع العراقي بأكمله.
وما يلفت النظر، أن الرئيس مسعود بارزاني نال احترام ومحبة مكونات العراق كافة. وقد أكدّت الاستطلاعات غير الرسمية، ومجالس المثقفين من السنة والشيعة على حد سواء، أن لهذا الرجل مكانة خاصة في قلوب العراقيين. ليس لأنهم ينتمون بالضرورة إلى مشروعه السياسي، بل لأنهم يثقون بصدقه، ويُعجبون بثباته، ويقدّرون حكمته. وهنا، تظهر المعادلة الحقيقية في قيادة الشعوب: القائد الناجح هو من يحبه الناس، لا من يخشاهم أو يسايرهم في مصالح آنية.
زيارة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الأخيرة إلى إقليم كوردستان، لم تكن زيارة بروتوكولية عابرة. بل كانت زيارة فيها رسائل، وفي كل مشهد منها دلالة. استقبال رئيس حكومة الإقليم للسوداني جاء بروح الدولة، وبأداء يُظهر أن كوردستان جزء لا يتجزأ من العراق، وأن وحدة الصف تبدأ من احترام الشركاء لا تهميشهم. لكن بيت القصيد، كان في اللقاء المرتقب مع الرئيس مسعود بارزاني، المرجعية السياسية التي يعوّل عليها الجميع في العبور نحو محطات الاستقرار.
هذا اللقاء، الذي حظي بمتابعة كبيرة من الرأي العام ووسائل الإعلام، شكّل علامة فارقة في المسار السياسي الحالي، خصوصًا في ظل ظروف داخلية وإقليمية تزداد تعقيدًا. النار مشتعلة في أكثر من صعيد، والتحديات تحاصر العراق من كل الاتجاهات، والانتخابات المقبلة التي حُدد موعدها في 11 تشرين الثاني 2025، باتت على الأبواب. والمفوضية العليا للانتخابات بدأت بالفعل خطوات تسجيل الكيانات السياسية الراغبة بالمشاركة.
في هذا السياق، يدرك السياسيون العراقيون أن من أراد أن يضمن حظوظه الانتخابية، أو يسعى إلى تشكيل تحالفات قوية، لا بدّ له من المرور عبر أربيل. فالحصول على توقيع الرئيس مسعود بارزاني، أو حتى نيل مباركته، صار شرطًا غير معلن في طريق النجاح. لأن ما يجمعه الرئيس من صدق في القول، وقطعية في القرار، يجعل من كلمته وعدًا صادقًا، ومن رفضه موقفًا لا يُجاريه أحد.
إن الرئيس بارزاني، الذي يحمل في رصيده أطول نضال سياسي في المشهد الكوردي والعراقي المعاصر، لم يكن يومًا طامعًا في سلطة، ولا باحثًا عن مجد شخصي. كان وما زال صوت الإنسان وكرامته. رجل يكره الانتحار لكنه يضحي بنفسه من أجل الإنسان. يحترم حقوق الناس، ويضع قضية الحرية والعدالة في قلب مشروعه السياسي.
لهذا، فليس غريبًا أن يحظى بهذه المكانة الرفيعة في ضمير الناس. لأنهم رأوا فيه الصدق حين اختفى من الساحة من ادّعوا الوطنية، ووجدوا فيه القرار حين تخاذل الآخرون أمام مسؤولياتهم. إنه لا يقول “نعم” إلا إذا كان مؤمنًا بها، ولا يقول “لا” إلا إذا كانت ضرورية. ومتى ما قالها، ثبت عليها، فلا مساومة على حقوق شعبه، ولا تراجع عن مواقفه.
هكذا يُصنع القادة، وهكذا يبقى التاريخ منصفًا لأولئك الذين نذروا حياتهم من أجل شعبهم.
وفي المشهد الراهن، وبين كل هذا الركام من التعقيدات، يبقى صوت الرئيس مسعود بارزاني هو الأوضح، وموقفه هو الأقرب إلى نبض الناس، ورؤيته هي الأقدر على جمع المتفرقين، وتوحيد المختلفين، وإحياء الأمل في نفوس تعبَت من دوامة الانقسام.
لقاء الرئيس بارزاني برئيس الوزراء العراقي لم يكن مجرد حدث سياسي عابر، بل لحظة تاريخية تؤكد أن من أراد أن يصنع مستقبل العراق، عليه أن يبدأ من الاعتراف بالشراكة الحقيقية، وأن يقف عند باب الرئيس في أربيل، حيث قرار الدولة لا يقف على جغرافيا، بل على مبدأ العدالة.
إنها ليست فقط زيارة سياسية، بل مشهد يعيد التذكير بأن العراق الذي نريده، لا يُبنى إلا بتوافق الجميع، وبروح الأخوّة والاحترام. ومن لا يرى في أربيل شريكًا حقيقيًا، لن يرى في بغداد مستقبلاً مستقرًا
(2)
حين تستقبل أربيل السوداني: مسرور بارزاني يرسم ملامح المرحلة المقبلة
مهما يكن الدافع خلف زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى إقليم كوردستان، فإنها لا تخرج عن إطار الاعداد المبكر للانتخابات، أو على الأقل فتح أبواب التحالفات الممكنة، وتهيئة الأرضية السياسية لما هو قادم. فالعراق كما يعرف الجميع، لا يمكن أن يشهد حكومة فاعلة دون توقيع رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني، مسعود بارزاني، الذي ما زال يمسك بزمام القرار الكوردي والعراقي من موقعه النضالي والفعلي.
العرف السياسي في العراق الجديد بات واضحًا: من ينل رضا الرئيس بارزاني، ينم قرير العين، ومن لم ينله، يجد نفسه خارج دائرة التأثير، يدور في فلك ضيق حتى تتغير الأحوال أو يتبدل الموقف. هذا العرف لا ينبع من فراغ، بل من واقع سياسي وتجربة طويلة، أثبتت أن أي تفاهم أو تسوية لا يمكن أن تكتمل دون المرور عبر بوابة أربيل.
الواقع المعقد والحافة الخطيرة
في ظل هذا الواقع المعقّد، يقف العراق على حافة الخطر. فكلما زادت التشنجات السياسية والطائفية، وكلما ابتعدت الدولة عن حصر السلاح بيدها، واقتربت الميليشيات من مراكز القرار، كلما ضاعت فرص الاستقرار، وتقلّص أفق الحلول.
ومن هنا، فإن السؤال لا يتعلق فقط بإجراء الانتخابات، بل بكيفية إجرائها ومشاركة الجميع فيها، خصوصاً الكورد. فهل من الممكن الذهاب إلى صناديق الاقتراع دون ضمان مشاركة الكورد الكاملة؟ وهل من المنطقي أن تُجرى الانتخابات وفق نظام الدوائر الضيقة الحالية، أم أن العودة إلى نظام المحافظات كدائرة انتخابية واحدة هو الخيار الأفضل لضمان تمثيل عادل ومتوازن في رغبة التيار التنسيقي اولا ؟
رجلان في مهمة واحدة
في خضم هذه التساؤلات، يبرز دور الرجلين الأساسيين في المشهد الكوردي: الرئيس نيجيرفان بارزاني، الذي يتحرك في جولات دبلوماسية لنقل رسائل واضحة من الرئيس مسعود بارزاني إلى الخارج قبل الداخل ، مؤكداً أن الكورد عامل سلام واستقرار، وهم منفتحون على كل من يمد يد السلام والتفاهم.
وفي المقابل، يظهر رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني وهو يعيد ترتيب الصفوف داخلياً، ويؤسس لجبهة كوردستانية موحدة، قاعدتها أربيل، وعاصمتها القرار الكوردي. وقد نجح مسرور بارزاني في جعل أربيل محطة أنظار إقليمية ودولية، ليس فقط باستقبال السوداني، بل بتهيئة الإقليم ليكون محور اللقاءات السياسية المقبلة، ورافعة أساسية لأي حل وطني شامل.
الرحلات تبدأ من أربيل
لم تكن زيارة السوداني إلى أربيل حدثاً عابراً، بل إشارة إلى بداية مرحلة جديدة من التفاهمات والزيارات المتبادلة. ومن المرجّح أن تشهد أربيل في الشهور المقبلة موجة من الزيارات السياسية، العلنية والسرية، من أطراف متعددة، محلية وإقليمية، بحثاً عن تفاهمات تسبق مرحلة الحسم الانتخابي.
وربما هذه الزيارات، وإن جاءت من منطلقات مختلفة، تتقاطع جميعها عند نقطة واحدة: لا حلول من دون الكورد، ولا استقرار دون موافقة أربيل، ولا حكومة فاعلة دون تنسيق مع الرئيس مسعود بارزاني.
المثلث القيادي: توازن الحكمة والقوة
اللافت في المشهد الكوردي هو التناغم بين ثلاثة أقطاب : الأب المرجعية مسعود بارزاني، ورئيس الحكومة السيد مسرور بارزاني، و رئيس الاقليم نيجيرفان بارزاني. هذا المثلث القيادي يمارس سياسة “نكمل بعضنا البعض”، حيث يتولى كل منهم دورًا متكاملاً في إدارة الإقليم وتوجيه العلاقة مع بغداد ودول الجوار.
الرئيس مسعود بارزاني يمارس دور الحكيم الوقور، الممسك بخيوط القرار من مقره في “سرى رش”، في حين يتحرك السيدان نيجيرفان ومسرور بارزاني في ميادين السياسة اليومية والدبلوماسية والإدارة، لتأمين الحقوق الكوردية وتثبيت موقع الإقليم في المعادلة العراقية.
تبدّل ملامح الإقليم والمنطقة
ورغم بطء التحولات، إلا أن ملامح المنطقة بدأت تأخذ مسارًا عكسيًا، أقل توترًا، خصوصاً مع تغيّر أولويات بعض دول الجوار. تركيا، مثلاً، لم تعد كما كانت. فالرئيس أردوغان، الذي كان لاعباً إقليميًا من الطراز الأول، بات أكثر انشغالًا بترتيب البيت الداخلي.
أما إيران، فقد أعادت ترتيب أولوياتها الإقليمية نتيجة الضغوط الدولية والانشغالات الداخلية المتزايدة.
الأحداث في لبنان، وفلسطين، وسوريا، أظهرت أن حلم بعض الدول في إعادة إنتاج نفوذها القديم بات أقرب إلى السراب. أربعون عامًا من الطموحات تبددت في أربعين ساعة من التحولات الميدانية، وربما لا مجال للعودة إلى الوراء.
منطق المصالح لا الشعارات
العالم اليوم لا تحكمه الشعارات بل المصالح. الحدود لم تعد خطوطًا مقدسة، بل نقاط تفاوض. ومنطق الدولة هو الذي ينبغي أن يسود، وهذا ما يدركه الرئيس مسعود بارزاني جيدًا، وهو الذي يقود الكورد بحكمة نحو شراكة متوازنة في الدولة العراقية.
لقد تغيّر العراق كثيرًا. لم تعد الحكومة تُشكّل على وقع الأوامر الخارجية، ولا القوى السياسية تستجيب كما في السابق. الناس بدأت تتنفس الصعداء مع انحسار سطوة الميليشيات، والمزاج العام يتّجه نحو تثبيت منطق الدولة والدستور، واحترام الحقوق، والشراكة الحقيقية.
كلمة بارزاني… وتحديات المرحلة
ولعل كلمة الرئيس مسعود بارزاني في معرض أربيل الدولي كانت خير تعبير عن طبيعة المرحلة المقبلة. فقد أشار بوضوح إلى أن القادم يتطلب المزيد من الحذر، وأن التحديات لا تزال قائمة، لا سيما في ظل احتمالات التصعيد، أو ما أسماه “الشر القادم”، في حال لم تتوحد المواقف الكوردية.
وهو بذلك يوجّه رسائل مزدوجة: أولاً للكورد بضرورة توحيد الصف والكلمة، وثانيًا لبغداد بأن أربيل ليست خصمًا، بل شريكًا لا غنى عنه. وهذا التوحيد هو مفتاح النجاح، ولا مجال للتراخي أمام المتغيرات الإقليمية والدولية.
مطار أربيل… الساحة المرتقبة
في خضم هذه التطورات، يتحول مطار أربيل الدولي إلى ساحة سياسية بامتياز. فمنه تبدأ الرحلات الدبلوماسية، وإليه تتجه الأنظار، ومن خلاله تُصاغ اللقاءات والتفاهمات. لكنه في الوقت نفسه، ساحة تستوجب الحذر.
فعلى الكورد أن يدركوا أن كثرة الزوار لا تعني بالضرورة كثافة الدعم، وأن الحضور الدولي والإقليمي في أربيل قد يكون فرصة، لكنه قد يكون أيضًا فخًا إن لم يُحسن التعامل معه. الحكمة، والتوازن، والوحدة الكوردية، هي الشروط الأساسية لجعل من مطار أربيل منصة لصناعة المستقبل، لا بوابة لتصدير الأزمات