د. ابراهيم احمد سموا
(1) نيجيرفان بارزاني وأردوغان: عودة الحوار أم تسوية كوردية – تركية مرتقبة؟
رغم ظهوره الإعلامي المحدود، فإن الدور الذي يلعبه السيد نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كوردستان ، يتجاوز بكثير ما كنا نتصوره سابقاً. فبينما يظنه البعض فاعلاً محلياً فقط، تتكشف الحقائق يوماً بعد آخر عن مدى تأثيره في معادلات المنطقة، ودوره المحوري في تخفيف التوترات وتقريب وجهات النظر بين الأطراف المتضادة.
في زمن يعج بالتقلبات والصراعات، من النادر أن نجد شخصيات قادرة على لعب دور الجسر الواصل بين المصالح المتعارضة، وخاصة في منطقة معقدة كمنطقتنا. غير أن نيجيرفان بارزاني استطاع، بحكمة وهدوء، أن يثبت بأنه أحد هؤلاء القلائل القادرين على التعامل مع «الهجمة الواقعية» التي تسبق الإعلام، ويتقدم بخطوات محسوبة لمواجهة تحديات العصر.
ما يجعل هذا الرجل مختلفاً هو أنه لا يسعى إلى الظهور من أجل الظهور، ولا يتكلم كثيراً أمام الكاميرات، بل يفضل العمل في الخفاء أحياناً، وفي الضوء حين يتطلب الموقف ذلك. وقد أثبتت تحركاته، من الدوحة إلى أبو ظبي، ومن دافوس إلى باريس، ومن اجتماعاته العلنية مع رؤساء دول وشخصيات سياسية نافذة إلى لقاءاته المغلقة، أنه شخصية ذات ثقل سياسي ودبلوماسي حقيقي، تلعب دوراً رئيسياً في إدارة كثير من الملفات الإقليمية.
الحضور اللافت للسيد نيجيرفان بارزاني في منتدى أنطاليا الدبلوماسي لم يكن مجرد دعوة عابرة أو مشاركة بروتوكولية. بل كان حضوره بمثابة رسالة واضحة إلى الجميع، بأن إقليم كوردستان ليس مجرد كيان هامشي في خارطة الشرق الأوسط، بل هو طرف فاعل وصاحب كلمة تُسمع وتحترم.
وقد كان لافتاً أن يُستقبل السيد نيجيرفان بارزاني بحفاوة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ضمن بروتوكول الدولة المضيفة، حيث رُفِع علم كوردستان إلى جانب أعلام الدول الأخرى، وأُدرج اسمه ضمن الصف الأول من القادة والرؤساء المشاركين. وهذا بحد ذاته اعتراف ضمني بالمكانة السياسية التي بات يتمتع بها الرجل، وبالدور المتزايد الذي يلعبه الإقليم في صياغة مستقبل المنطقة.
لا شك أن القضايا التي طُرحت خلال اللقاءات التي جرت على هامش المنتدى، وخصوصاً اللقاء الذي جمعه بالرئيس أردوغان، كانت على قدر كبير من الأهمية. ومن المؤكد أن من بينها قضية السلام الداخلي في تركيا، وعملية المفاوضات مع حزب العمال الكوردستاني، وربما حتى مصير الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، الذي تتردد أصداء دعوات الإفراج عنه في الأوساط السياسية التركية والدولية.
ومن غير المستبعد أن تكون القضية السورية أيضاً من المحاور الأساسية، لا سيما في ظل الحديث المتزايد عن ضرورة حل سياسي دائم ينهي معاناة الشعب السوري، ويضمن حقوق كافة المكونات، ومن ضمنها الشعب الكوردي في سوريا. ومن هذا المنطلق، فإن وجود السيد نيجيرفان بارزاني في المنتدى لا يمكن أن يُقرأ بمعزل عن هذه التطورات، بل هو مؤشر واضح على أن الإقليم يسعى ليكون جزءاً من الحل لا من المشكلة.
ما يجدر ذكره أيضاً هو أن الإعلام الكوردي والعربي والدولي كان يراقب هذا الحضور بكثافة، لأن ما جرى في اليومين الأخيرين، من لقاءات ومشاورات، يشير إلى أن هناك تحولات قادمة، ليس فقط على صعيد العلاقة بين أنقرة وأربيل، بل ربما على مستوى أوسع، يشمل مستقبل العلاقة مع القوى الكوردية الأخرى، وتحديداً ملف حزب العمال الكوردستاني والمؤتمر المرتقب المتعلق به، إضافة إلى احتمالية تحريك عجلة السلام الداخلي في تركيا.
وربما يكون من الإنصاف القول إن الدور الذي يلعبه السيد نيجيرفان بارزاني حالياً لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج مسيرة طويلة بدأها منذ شبابه، حين أصر على تطوير نفسه، وبناء قدراته السياسية والدبلوماسية، حتى أصبح رقماً صعباً في المعادلات الإقليمية. لقد نجح في أن يُحسب له ألف حساب في أروقة السياسة، ليس فقط داخل العراق، بل في عواصم القرار الإقليمي والدولي.
وإذا ما نظرنا إلى المشهد الأوسع، فإن هذا الحضور اللافت في أنطاليا يأتي في وقت حساس تمر به المنطقة، حيث تُرسم خرائط جديدة للتحالفات، وتتغير ملامح النفوذ والتأثير. وفي خضم هذه التحولات، يبدو أن نجم نيجيرفان بارزاني يزداد سطوعاً، لا لأنه يملك القوة كشخصية سياسية ، بل لأنه يُتقن لعبة الدبلوماسية، ويمتلك مفاتيح التواصل مع الجميع، من دون استثناء.
المهم في كل هذا أن السيد نيجيرفان بارزاني لا يمثل نفسه فقط، بل يمثل الكورد جميعاً، ويحمل على عاتقه آمال أمة تسعى للسلام والاستقرار والاعتراف بحقوقها. ومن هذا المنطلق، فإن أي لقاء يجريه، وأي منصة يشارك فيها، هي بالضرورة تمس مستقبل القضية الكوردية ، سواء في تركيا أو في سوريا أو حتى في العراق ذاته.
وقد عبر كثيرون عن ارتياحهم لرؤية علم كوردستان مرفرفاً في على طاولة الرئيس في منتدى أنطاليا، وللاستقبال الحار الذي حظي به الرئيس نيجيرفان، لأن ذلك يبعث برسالة طمأنينة للكورد ، مفادها أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، وأن هناك من يعمل بهدوء وثقة من أجل تحقيق تطلعاتهم، بعيداً عن الضجيج، وبمنطق الحوار والعقلانية.
وفي الختام، يمكن القول إن حضور السيد نيجيرفان بارزاني في أنطاليا لم يكن مجرد حدث عابر في اللقاءات الدبلوماسية، بل هو محطة بارزة في مسار طويل من العمل السياسي الرصين. وهو تجسيد حي لمقولة قديمة يقولها الكورد : “الذي يبدأ بالنور، ينتهي بالنور”، فالرجل بدأ مسيرته بنور الأمل والعقل، وها هو يواصلها بنور السياسة والفعل الهادئ.
(2)
نيجيرفان بارزاني وأحمد الشرع: لقاء ما بعد العاصفة أم تمهيد لتسوية كوردية – سورية؟
بدأت العاصفة السياسية تأخذ مجراها، وها هو السيل الكبير قد انطلق، جارفًا معه أسئلة كثيرة ومواقف متشابكة، بعد أن طفت إلى السطح أنباء عن لقاء غير اعتيادي جمع رئيس إقليم كوردستان، السيد نيجيرفان بارزاني، بالرئيس السوري بشار الأسد، إضافة إلى سلسلة لقاءات أخرى شملت شخصيات بارزة في الملف السوري.
هذه التطورات تفتح الباب واسعًا أمام التأويلات والتكهنات: ما الذي جمع نيجيرفان بارزاني بالرئيس السوري؟ وما الذي أُنجز خلال اللقاء؟ وهل نحن أمام منعطف جديد في المشهد السوري، وخصوصًا فيما يتعلق بالملف الكوردي هناك؟ وهل هي مصادفة أن تتزامن هذه اللقاءات مع ارتفاع حدة التوترات الإقليمية والدولية بشأن سوريا؟
منذ بداية هذه الزيارة التي وصفت بـ”النوعية”، بدت الأمور تسير في اتجاه غير مألوف. جدول اللقاءات كان مزدحمًا، وقد جرت معظمها خلف الأبواب المغلقة، بعيدًا عن ضوضاء الإعلام، وهو ما أضفى على الزيارة هالة من الغموض والحذر، وأثار فضول المتابعين.
لقاء الرئيس نيجيرفان بارزاني مع الرئيس احمد الشرع كان في قلب العاصفة. هذا اللقاء، الذي وصفته بعض المصادر بـ”التاريخي”، لم يكن عابرًا، بل بدا وكأنه جزء من خارطة طريق أوسع تُرسم للمنطقة، بمشاركة لاعبين إقليميين ودوليين. وتزامن ذلك مع لقاءات مكوكية شملت مسؤولين آخرين، في مقدمتهم الرئيس اردوغان، أحد العقول السياسية البارزة في رسم هذه اللقاءات .
برغم الضبابية التي أحاطت بهذه اللقاءات، إلا أن الثابت الوحيد هو أن الملف الكوردي في سوريا كان على رأس جدول الأعمال. فالمسألة الكوردية لم تعد مسألة هامشية أو محلية في إطار الأزمة السورية، بل تحولت إلى قضية جوهرية ترتبط بمستقبل البلاد ووحدتها، وتؤثر في توازن القوى بين الفاعلين المحليين والإقليميين.
الرئيس نيجيرفان بارزاني، المعروف بحكمته السياسية وهدوئه الدبلوماسي، دخل هذا الملف وهو يحمل همّ الكورد في كل مكان، وليس فقط في كوردستان العراق. فكما كان صوته حاضرًا في محافل الإقليم، ها هو اليوم يمتد بثقله السياسي إلى الساحة السورية، محاولًا بناء جسور التفاهم بين الأطراف المختلفة، والتقريب بين وجهات النظر المتباعدة، نحو حلّ يضمن الحد الأدنى من الحقوق للكورد، ويحفظ استقرار سوريا وسيادتها.
لقاء بارزاني بأحمد الشرع على وجه الخصوص، حظي بالكثير من الاهتمام، خاصة وأن الشرع يُعدّ من الشخصيات التي تحظى باكثر من علامة استفهام من مختلف الأطراف، لما له من من ماضي و تراث قتالي بحت الى سياسي معتدل على الاقل لحد الان خبرة، ودور سابق في رسم السياسات الخارجية السورية. كان اللقاء بمثابة جلسة مكاشفة استراتيجية، تناولت ما بعد الأزمة، واحتمالات الانتقال السياسي، وموقع الكورد في مستقبل سوريا.
وقد خرجت من هذا اللقاء إشارات إلى إمكانية بلورة مقاربة جديدة تقوم على التفاهم لا التصادم، وعلى مبدأ “لا خاسر ولا رابح”؛ أي توزيع المكاسب بشكل متوازن يضمن عدم شعور أي طرف بالهزيمة، وهي رؤية طالما تبنّاها بارزاني في علاقاته مع الأطراف المختلفة، سواء في الداخل العراقي أو في الإقليم.
من جهة أخرى، لا يمكن عزل هذه التحركات عن التحول التركي الملحوظ مؤخرًا، والذي يُترجم عبر لقاءات متعددة، كان من أبرزها اللقاء بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس نيجيرفان بارزاني. هذه اللقاءات، وإن كانت ظاهرها اقتصاديًا أو أمنيًا، إلا أن باطنها سياسي بامتياز، وتُظهر مدى قدرة الإقليم على لعب دور الوسيط المحوري بين القوى المتناقضة في الساحة السورية و التركية معا .
دور بارزاني في هذه المرحلة يمكن وصفه بـ”ديناميكي” ومتعدد الأبعاد. ففي الوقت الذي ينشط فيه على الساحة السورية، ويخوض حوارات مع أطراف متصارعة، تراه يُدير باقتدار ملف الداخل الكوردستاني، ويحافظ على توازن العلاقات مع بغداد وأنقرة وطهران. كل ذلك يجري ضمن إطار مثلث سياسي متماسك، رأسه قيادة حكيمة تصيغ السياسات وتوجه المسارات، وقاعدته رجال دولة يديرون الملفات بوعي وهدوء.
وإن كان البعض يرى في هذه التحركات مجازفة سياسية، فإن نتائجها حتى الآن تشير إلى تحقيق مكاسب هادئة، وإن كانت غير معلنة بعد. ففكرة جمع الأضداد في بوتقة واحدة، من دون فرض شروط قاسية على أحد، قد تكون مفتاحًا جديدًا لمرحلة قادمة، تتجاوز منطق العداء المطلق، وتفتح الباب أمام تسويات ذكية.
في النهاية، ما يجري الآن هو أكثر من مجرد زيارات أو لقاءات بروتوكولية. نحن أمام تحولات عميقة، تعاد فيها صياغة التحالفات، وتُبنى على أساسها قرارات ستؤثر في شكل الشرق الأوسط لعقود قادمة. ومن الواضح أن الرئيس نيجيرفان بارزاني لا يتحرك بوصفه طرفًا صغيرًا في هذه المعادلة، بل كفاعل يمتلك أوراقًا مؤثرة، ورؤية عابرة للحدود، وهمًا قوميًّا جامعًا يتجاوز حدود كوردستان العراق.
اللقاء مع أحمد الشرع، وتبعاته، سيكون لهما ما بعدهما. إذ من المرجح أن تتكثف المشاورات في الفترة المقبلة، لتشمل قوى كوردية سورية، وربما فصائل معارضة أخرى، تمهيدًا لمؤتمر أو حوار أوسع، قد يكون الإقليم منصة انطلاقه، بوساطة وقيادة الرئيس بارزاني.
ويبقى السؤال الأكبر: هل تنجح هذه الجهود في تغيير قواعد اللعبة في سوريا؟ وهل سيفضي هذا المسار إلى حل واقعي يُنهي مأساة الشعب السوري، ويعيد للكورد في سوريا موقعهم الطبيعي؟ الأيام المقبلة وحدها تحمل الإجابة.