د ابراهيم احمد سمو
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات التكنولوجية، ويُعاد تشكيل الذاكرة الإنسانية بأساليب غير مسبوقة، يظل الجدل قائماً بين أنصار الكتاب الورقي ومحبي النسخ الرقمية، لا سيما في الفعاليات الثقافية التي تحتفي بالكلمة المكتوبة، كما هو الحال في معرض أربيل الدولي للكتاب، حيث يُطرح هذا السؤال بإلحاح: أيّهما أكثر أماناً لحفظ التاريخ والهوية والتراث؟
الكتاب الورقي، كما يراه كثيرون، هو حارس الذاكرة الأولى للشعوب. فهو لا يتأثر بتقلبات التكنولوجيا، ولا يُمحى بمجرد ضغطة زر أو توقف منصة إلكترونية. الورق يُخزن، يُتناقل، يُهدى، ويُعاد اكتشافه حتى بعد عقود، وربما قرون. أما النص الرقمي، فرغم سهولة الوصول إليه وانتشاره الهائل، يبقى عُمره مقرونًا بعمر الإنترنت والتكنولوجيا التي تحمله. يكفي أن تتغير خوارزمية، تُغلق منصة، أو تُمحى قاعدة بيانات، حتى يتبخر كل ما كان معروضًا للعيان وكأنه لم يكن.
هذا الخوف من “هشاشة الرقمي” ليس خيالاً ولا مبالغة. فما نظنه اليوم ثابتًا، قد يصبح في طيّ النسيان في لحظة واحدة، كما لم يكن أحد يتوقع قبل عقود ظهور الإنترنت أو الذكاء الاصطناعي بهذا الشكل المتسارع. ومن كان يظن أن الإنسان سيتحدث مع آلة تفهمه وتساعده في الكتابة والفهم والتفكير؟ لكن كما أن المستقبل أتى بما لا يخطر على بال، فإن المستقبل نفسه قد يأخذ كل شيء معه. ماذا لو اندلعت حرب فضائية، أو تم تفجير أقمار صناعية، أو انقطعت شبكة الإنترنت لأسباب سياسية أو طبيعية أو حتى أمنية؟
من لا يصدّق هذه الفرضيات، ما عليه إلا أن يستحضر مشاهد من أفلام الخيال العلمي، أو حتى أن يسترجع أحداثًا واقعية عشناها جميعًا، كمرحلة سيطرة داعش على مناطق واسعة في العراق وسوريا. لقد قطعت تلك الجماعات كل صلة بالعالم الخارجي، بل وذهبت أبعد من ذلك حين أحرقت الكتب واعتبرت الثقافة عدواً. لم تكن تلك مشاهد خيالية، بل واقعًا مريرًا عشناه، ومن غير المستبعد أن تتكرر هذه السيناريوهات – بصور مختلفة – في أي مكان وزمان.
هذا هو جوهر النقاش الذي دار أمامي في معرض أربيل الدولي، حين شاهدت عدد من المهتمين بصناعة الكتاب، أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بالورق رغم دهشة البعض من هذا الرأي الذي قد يبدو مناقضًا للتوجه العام نحو الرقمنة. فالواقع يشير بوضوح إلى أن الغالبية اليوم تتعامل رقميًا في شتى المجالات: من الإدارة والتعليم إلى الصحة والتجارة والفن. وحتى المطالعة أصبحت محمولة في جيبك، عبر هاتف أو جهاز لوحي أو حاسوب.
لكنّ التحذير لا ينطلق من موقف عدائي تجاه التكنولوجيا. على العكس، فنحن من أكبر المستفيدين منها، ونستخدمها يوميًا في مختلف شؤوننا. إنما الخوف الحقيقي هو من فقدان الذاكرة الجمعية إذا ما انهارت الوسائط الرقمية لأي سبب. فأن نراهن فقط على حفظ التراث في ملفات “PDF” أو روابط إلكترونية متقلبة، فهذا يشبه من يكتب تاريخه على صفحة ماء.
الحل ليس في رفض الرقمي، ولا في تمجيد الورقي وحده. بل في التوازن بين الاثنين. لا يجب أبدًا تهميش الكتاب الورقي أو النظر إليه على أنه تراث ماضٍ لا يصلح لعصرنا. بل يجب أن يُعاد الاعتبار له كوثيقة أصلية، وكضمانة مادية لما نملكه من معارف وهويات. في المقابل، علينا أن نواصل الاستثمار في الرقمنة والذكاء الاصطناعي، ولكن مع اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة: حفظ الأرشيفات بصيغ مختلفة، طبع ما هو ثمين من النصوص الرقمية، وتخزين نسخ منها في أماكن متعددة.
ما نحتاج إليه هو مشروع وطني (بل قومي) لحفظ التراث الكوردي و العراقي ، بجميع لغاته وتنوعاته، ورقيًا ورقميًا في آنٍ واحد. فكم من مخطوطة أو كتاب ضاعت نسخته الأصلية، وكان من الممكن استرجاعه لو وُجد له بديل رقمي؟ وكم من نص رقمي اختفى من الوجود لمجرد أن موقعًا أغلق أو لم يُجدد اشتراكه؟
يجب أن نتعامل مع المعرفة ككنز ثمين، لا نرهنه لوسيط واحد مهما كان حديثًا وفعالًا. فكما نضع المال في البنك ونحتفظ بنسخة من المفتاح في مكان آمن، يجب أن نحتفظ بذاكرتنا الجمعية في أكثر من شكل.
الورق والرقمي ليسا خصمين، بل ركيزتين لحفظ العقل البشري. والمعارض مثل معرض أربيل الدولي، فرصة لإعادة هذا النقاش إلى الواجهة، خصوصًا في ظل موجة الذكاء الاصطناعي التي لا تنفك تُدهشنا وتقلقنا في آن.
فلنعمل على تعزيز الوعي، لا بالتحذير وحده، بل بالفعل والتخطيط والمبادرة. فبين احتمال الظلام ووميض النور، تبقى المعرفة هي السلاح الأقوى، والمحفوظ منها – في الرف أو في السحابة – هو الأمل المتبقي لحفظ الذات من التلاشي.