تضامن/2

 

ماجد عاطف

 

كلّهم واهمون موهومون لا يعرفون شيئاً، يوجّههم إعلام مسيطرٌ عليه موجَّه، ولو عن طريق الضدّ. ليته يجد شخصاً ثقة واحدا يستطيع الإفصاح له عمّا تراكم من ملاحظات وأخبار وتقديرات طوال عشرين عاما، خاصة ممن يعتدّ بهم في الفصائل، لكنه لا يجد. ولو حاول فسيرتبك لانعدام الصفة وبعد أن سكنته الطفلة فيها، ما بين تأنيب وتعاطف.

انتبه على جملة تقولها شابة جميلة إلى الطاولة التي جانبه:

الأردن يعيش على مصائب جيرانه.

فكرة دقيقة وعرف قائلتها. رأى صورتها على الانترنت. أردنية قحّ نقابية بالانتخاب وصاحبة مكتب متخصص. إنها في الأربعين، تدخّن، جميلة، أثر الخاتم المنزوع عن بنصر يدها اليسرى واضح. لها قريب في الديوان الملكي. من يجرؤ غيرها على ذكر جملة كهذه؟ التفت اليها. سألها:

متى سيبدأون؟

الله أعلم. طقوسهم عربنا غير منتظمة.

وابتسمت. كانت راغبة في تبادل الحديث.

هل من الممكن ترك مظلتي على المقعد مع حقيبتي والكتاب لأغيب دقيقتين؟

اطمئن. سأخبر الموظف.

أشكرك.

في طريقه للحمام بعد ممرّ وعدة غرف، رأى لوحة مشروع هندسي معلّق. عرفه فوراً. على الانترنت، في نبذة التعريف، تقدم أخت غريمته نفسها على أنها مهندسة فلسطينية مناضلة ولكن من داخل الاعتراض في الحكومة الإسرائيلية. يعرف أكثر بكثير عن عائلتها، ولكن ماذا؟؟

إنها (فلسطينية إسرائيلية))

لم يتفاجأ من وجود اللوحة فكل شيء يتبع السياسة ومعاهداتها.

عاد لطاولته وكانت امرأة تجلس مكانه تتحدّث مع النقابية المطلقة الأردنية. لشدّة رعبه، حين استدار نحوه رأس انثوي أشيب منظّم الشيب كتصفيفة مبتكرة، لم يستطع النبس بحرف. التي جلست مكانه كانت غريمته نفسها، من أتى لمراقبتها.

تذكّر أنه متنكر واسترجع بعض ثقته. كأنه يواجه بالهروب أو يهرب بالمواجهة، تشاغل بالذهاب لطاولة فارغة وعاد بمقعد منها. وضعه على الجانب الآخر لطاولته واستعاد حقيبته الصغيرة مع المظلة والكتاب من سطح الطاولة.

آسف أنني جالسة مكانك..

صوتها رقيق رفيع ضعيف مهذّب.

لم يجد ما يقوله فهز رأسه، واستدارت عنه. كانت يستمع أكثر لنفسه التي تخفق. داخله يسكنه تقدير عقلي نظري بحت من التحليلات والاحتمالات الممكنة والمخاطر والمؤشرات.

سيدتان تتحدّثان وهو لا شأن له. قالب يخفي وجعا قديماً. وجهه يتنقل بين أرجاء قد يعرف ولا يعرف المتواجدين فيها. أتى شاب ورجل. تكلما معها وقاما بمواساتها. هتفت لهما:

حرموني لأني فلسطينية فقط، هل تصدّقان؟ الأجانب إما قاطعوني أو سكتوا عني أو انتحوا جانباً خائفين..

استدار وجهها له هو، كأنها تشرح لمعجب:

كل الذي حاولت فعله هو وضعهم فقط في صورة ما يحدث.

الله المعين.

“فلسطينية إسرائيلية ولديها جنسية أوروبية حصلت على الكثير وتريد أكثر” تجاوز الفكرة التي لا يستطيع تقييمها أو النطق بها. عرف الشاب الذي يعرف مَن هو أبوه. إنه من جذور فلسطينية ولكنه في حزب يساري أردني. من الشائع عن الكثير من هؤلاء أنهم يريدون التعويض المالي لا العودة. بعد أن انخصى اليسار القليل والمعارضة الجدية في الأردن، سمحوا لهما كديكور وطني ديمقراطي متأخر وحاجز صدّ للحركات الإسلامية.

الحقيقيون عرفهم السجن، الجفر.

الأردن يخيفه بشدّة وفيه لا يتكلّم البتة، هذا إذا بقي يعرف الكلام أصلا! إنه صائم عن الكلام منذ عشرين عاما. تذكّر نكتة: مرّة أجروا مسابقة مخابراتية بين الدول وفاز فيها الأردن بعد أن أجبر الجمل على الاعتراف بأنه غزال. ضحك لنفسه.

التفتت اليّه ثانية، ربما بسبب ضحكه. كان يعيش الصدمة والمسافة بين “العقلي” والاجتماعي المباشر.

شكرا لأنك أتيت رغم مشاغلك.

العفو.

من اين أنت؟

هل تريد جعله مشروعا من مشاريعها الوسيطة؟ كان يعي أن التراجع عن التكريم كما في المبررات بعد طوفان الأقصى من غزة، لا يعني قراراً نهائيا بل (تأجيلا) فقط، كما في صيغة أوروبية أخرى. وهذا –لا- يعيه (المتضامنون). لأنهم في حالة حصلوا على (مراعاة) تضامنهم وتكريمها فعلا، فسيحسبون أنفسهم مؤثرين مناضلين قد انجزوا وأوصلوا عربياً لساحة تأثير وتمثيل.

لعبة مفهومة، لكنها مجهولة لهم. لم يدرسوا أعمالها فعلا كما فعل هو، ولا يستطيعون تقدير أنها غير مستحقة بذاتها. أما الإشارة للتفاصيل الأخرى، الأسباب الفعلية، فهي مخيفة لأي شخص عادي، ولا يستطيع حتى هو النطق بها.

الأصل من فلسطين. أنا مجرد زائر بالخطأ للمكان، لكن تقبلي مني احترامي.

أوحى لها أنه مقيم في الأردن ولا يعرف ما يدور. تناول مظلته وحقيبته والكتاب. ذهب وسدّد ما عليّه وخرج على مهل.

عاد إلى وجعه. ما كان عليّه أن ينتظر شيئاً من أي جهة محلية أو أوروبية ستعرف بسهولة أنه ممنوع أصلا من الحصول على تصريح عمل، وأن اتجاهه المستقبلي المتوقع سيكون مرفوضاً.

أمّا هي فقد أخذت حجماً ضخما متضخّماً داخله، والأمور أبسط من ذلك بكثير.

لم يفكّر تماما ولكنه استجاب لنفسه وعاد. كانت شابة بخطوط من الشيب ولمسات طفولية، ليس لها حتى مسار امرأة عادية بزوج وطفل وعائلة وأحفاد. الدنيا أرزاق مقسومة. قاطع كلامها المنسجم مع الأردنية وخاطبها مباشرة:

أتسمحين لي بكلمة؟

تفضل.

سيدتي، أنتِ لا تعرفينني، وليس بيننا شيء، لكن إذا صدر عني أي ازعاج لك، ولا يمكن أن يصدر أكثر، فهل تقبلين اعتذاري؟

فيما أخذت تتأمله، وكان واثقاً بتنكره وأنها لا تستطيع تمييزه من صوته الذي لم تسمعه، كان يقرأ ارتياحا في ملامحها التي من دون مكياج.

فجأة ابتسمت. اتسعت ابتسامتها على النحو الذي كان يتخيله في آلاف المرات من هلاوس اليقظة، كطيبة افريقية معهودة من لوحة زيتية مبهجة، وقالت:

اسامحك من كل قلبي!

تأثّر بطيبتها.

مدّ يده ليودّعها فأتت يدها طارئة، من جلوسها الذي كان بركبة فوق ركبة من جينز بعد أن نزلت، فيما كانت الأردنية مستغربة مما يحدث.

ليخرج بسرعة، الكثيرون هنا يمكنهم التسبب بالمتاعب، ولا يريد أن يتورط في فضولٍ من سين وجيم.

قال لنفسه: البقية لا تخصّه. ليس فصيلا ولا دائرة قومية أو معلوماتية. كان أكبر من خمسينيّته التي يخطو بها يكاد يثني المظلة، التي استعان بها كعصا.

والحمدلله الذي جعله، دون تورّط في شيء، يرى ما لا يمكن لغيره رؤيته. على الأقل يستطيع أن ينتفع بالتجنّب، بينما لا يستطيع غيره.

في حالة حصل شيء في المستقبل وروجع، فسيقول إنه كان موجوداً بالخطأ يشرب القهوة وأنه اعتذر لأنه كان يقهقه بصوت عالٍ. أخذت تمطر فاستبشر. لما أوشك على دخول باب سيارة الأجرة، سمع نقرات الميكرفون تأتي من الداخل مؤذنة ببدء النشاط التضامني.

عليه أن يتذكّر توديع أقاربه.

قد يعجبك ايضا