التذكر والاستذكار من خلال رواية «زمن الغبار» نموذجا/2

 

الهادي عرجون

وعلى الرغم من كثرة شخصيات الرواية، فقد اقتصر القص على بطلين رئيسيين فقط أثارا الكثير من الغبار في رواية «زمن الغبار» ، البطلة الأولى (ثريا) التي تلقت صفعة قوية بهراوة غليظة جعلتها ترقد في غيبوبة بإحدى المصحات الطبية التونسية ، لإسكات صوتها أثناء صراخها (أريد أن أخبر رئيس الدولة بكل شىء)، وإخفاء الحقيقة. أما البطل الثاني (ربيع) فقد تعرض للإصابة بالرصاص أثناء إحدى المعارك التي خاضها للدفاع عن ما يسمى دولة الخلافة الإسلامية بعد أن بايع خليفتها فترك دراسته وبلده وانتمى إليها، وهو يقاتل مدافعاً عنها.

وفي خضم هذه الأحداث فقد اعتمدت الروائية فاطمة بن محمود على فلسفة الذاكرة السردية والتي تعتبر واحدٌ من أهم المحاور الرئيسة، في روايتها « أنا فاطمة بن محمود، نعم أحب أن أكتب حتى لا ننسى»(ص 133)، ولكي لا ننسى كانت الذاكرة منجمًا تستمد منه الرواية مادتها بشكل أو بآخر وهو ما يجعل التقنية السردية (الاستذكار/ الاسترجاع) التي اعتمدتها في روايتها تمثل تقنية محورية، في سرد خيوط الحكاية، من حيث تذكر الساردة جلسات الحديث التي كانت تجمعها بثريا. والتي تقوم فيها بدور الحاكي. لتكون بذلك الذاكرة هي رحلة الذات في الحياة بأشكالها المتعددة، وهي الوسيط بين عالمين (الواقعي والتخييلي)، وهي تعبير صادق عـن مرجعيات الإنسان وقدرته على التواصل مع واقعه بصورة لا تهتم بالماضي فحسب، بل تتجاوزه إلى آفاق الحاضـر والمستقبل.

مع العلم أن الناظر في شخصية (ثريا) المرتبطة بالذاكرة الاسترجاعية التي جعلت من الرواية تبوح بأسرارها وتفتح شهية السرد من خلال لغة تيار الشعور، باعتمادها على تقنية التذكر التي تعتبر إحدى تقنيات السرد الحديث، وهي أن تعود الشخصية الروائية من خلال هذه التقنية إلى الوراء، لتتذكر أحداثاً ومواقفَ جرت معها قبل زمن معين، هذه العودة تجمد الحركة أو سير الأحداث المباشر، لكنها تجمدها لتضيئها أو تلقي بأضواء عليها، الأمر الذي يجعلها أكثر حيوية وخصوبة.

والمتتبع لمسامات الرواية وتفاصيل خطوطها نلاحظ بأن فعل التذكر هو العنصر الأساسي والرئيسي في بناء ديناميكية الرواية وتشكيل زخرفها اللغوي وتشكلها الجمالي في تحديد بنية الرواية باعتبارها كتلة قائمة بذاتها رغم ما فيها من عنونة لمفاصلها ولمقاطعها (يوم الأحد 28 جويلية 2013 الموافق ليوم 19 من شهر رمضان 1434 هجري الساعة الرابعة مساء)، مع تغير المكان والزمن، وهو ما يتلاءم مع قواعد الكتابة الروائية باجتماع عناصرها الفنية التي تجمع الشخصيات والمكان والزمان والأحداث التي تتأرجح بين العقدة والانفراج.

حيث اقترنت فلسفة الذاكرة السردية في الرواية، بعمليةٍ تدوين التفاصيل حيث جنحت الكاتبة لاستخدام عناصر سردية حديثة من تقطيع، وحوار درامي بنوعيه ومناجاة للنفس وتداع حر، وتذكر، ووصف للأمكنة، وبيان دلالاتها، كما تسجل الأحداث، وتلتقط الصور، تدون تحايا الصباح، الحركات والسكنات التي تتداعى في ذاكرة الكاتبة التي اضطلعت بهذه العملية. وقد استقت مادتها الرئيسة المنتمية إلى حيز زمنيٍّ أقدم من زمن التدوين، وهو الزمن الذي ظهر في عددٍ من الإحالات والأحداث (العمليات الارهابية، إغتيال شكري بلعيد، المسيرات المنددة بتسفير الشباب لبؤر التوتر ..)

فمن يتأمل رواية «زمن الغبار» يكتشف أن ثمة صلة قوية بين بنائها وتقنية التذكر، ويلحظ المتلقي حضوراً مكثفاً للذكريات بأنواعها المتعددة في الرواية. من حيث بنائها الفني على الذاكرة الاسترجاعية التي جعلت من الرواية تبوح بأسرارها وتفتح شهية السرد من خلال لغة سردية تتكئ على لغة عفوية بسيطة.

حيث ترددت في الرواية مفردات تشير إلى اهتمام الكاتبة بالذكريات لأهميتها في التداعي الحر لتفاصيل الأحداث ومن هذه المفردات: (تذكرتُ – تذكرني -أذكرُ – ذاكرتي – الذاكرة – الذكريات – ذكرى …)، وهي تعد مجموعة من المفردات تلخص حياة (ثريا) بناء على تجربة شخصية، وأحداث وشخصيات تمر بالشخصية المركزية سواء أكانت زمنياً أم مكانياً، ومن الطبيعي أن تُعني الروائية بكل تفاصيل شخصياتها وأحداث روايتها. فالماضي على الرغم من سوداويته ودروبه المعتمة، جميل، لأنه يحمل ذلك الأمل الذي ينبض بالحياة. ولكنَّ أيام المستقبل جاءت أشد عتمة وقسوة عندما يتبخر ذلك الأمل عندما يتمسك (ربيع) بسراب دولة الخراب ولكن بعد فوات الأوان “وجد نفسه داخل قبو رطب سكنته رصاصة على ما يبدو مثل عقله الذي أصبح يفكر عائدا للماضي.” (ص69)

وهكذا تظل أيام الماضي تحمل في ثناياها معاني الجمال وأحاسيس البهجة الجميلة والحلوة لتنفتح على أمل واسع، فمن لا ماضٍ له لا حاضر له، لقد كانت الذكريات هي الأمل الذي تحيا به نفوس الناس في المجتمع، كما أن استعانة الكاتب بتقنية التذكر لم يكن مصدرها الهروب من الواقع الحاضر، وإنما كان وسيلة لإصلاح الحاضر وجعله أكثر خصوبة وحياة وحيوية.

وقد جاء التذكر عند الكاتبة عفوياً، دون فواصل، وفي تداعٍ حر، ناتج عن استحضار الوعي لما مضى، في الرواية، فقد كانت الذكريات تنثال على ذهنها بعفوية وتلقائية دون تكلف أو تعمل، استدعتها الأحداث والشخصيات، والأزمنة. وتعتبر الذاكرة عند الكاتبة أيضًا وسيلة للكتابة وليست موضوعًا له. فقد تجدها تتخيل أماكن واقعية للسرد كالمستشفى الميداني لمعسكر الزرقاوي بمدينة الرققة حين تصفه، أو بعض الشخصيات كشخصية، (أبو حمزة، أبو الحكم، القائد الشيشاني، أمل السودانية… ) وأيضًا بعض الأحداث التاريخية التي تقحمها من حين لآخر خاصة والسارد لا يتذكرها كما الراوي إنما يتذكر نتفًا من اللغة والنصوص والفنون والواقع ويعيد تركيبها في الحاضر بوساطة الكتابة. ويعكس هذا المشهد الحالة النفسية للبطلة، ودور الارتداد الفني في استرجاع الماضي وربطه بحياة الشخصية النفسية؛ بهدف تعميق الإحساس بالسرور والبهجة والفرح.

تبرز الرواية كنقطة حوار وصراع بين متناقضين، لنقل أفكار ودحض أخرى للبحث عن الحقيقة ليفهم القارئ تركيبة تنظيم الدولة الإسلامية من خلال معاناة أم غرر بابنها الذي تبنى أفكارا ظلامية أدت إلى استدراجه للجهاد في سوريا. وقد مثل حضور الكاتبة فاطمة بن محمود الصوت الموضوعي والمسيطر على النص السردي من خلال امتلاكها لتفاصيل الأمكنة والمعلومات عندما تجعل الكاتبة الراوي أو شخص آخر داخل النص قريب منها لتنقل إليه الحكاية فتكون بذلك منغمسة في كتابة نصها داخل الرواية التي نقرؤها.

قد يعجبك ايضا