خالد خلف داخل
أبو هاشم طه الراوي أحد مفاخر العراق في العصر الحديث عالما اديباً وكاتباً متتبعاً وعالماً فاضلا ومؤرخاً جليلاً واستاذا مرموقاً واسع الاطلاع كانت له اليد الطولى في جميع فنون اللغة العربية كان عارفا بأسرارها شغوفاً بها دارساً
ومنقباً فيها حتى أصبح مرجع دارسيها ساير النهضة الحديثة في العراق فكان من رجالات العلم والفضيلة ونوابغ الادب والكمال فهو قاموس اللغة وقلادة الادب.
سيرته
طه بن صالح الفضيل الراوي بصري الاهل راوي النشأة نزح اجداده من البصرة الى مدينة راوه وسكنت عائلته هذه المدينة فنسب اليها ولد عام 1890 في اسرة الراوي التي يتصل نسبها بنسب الامام علي بن ابي طالب عليه السلام وتاريخ هذه الاسرة معروف بالعلم كان عميد هذه الاسرة السيد عبد الله الراوي جد ابي الحارث عالما فاضلا تخرج على يديه خيرة طلاب العلم ورواد الادب ومن أشهر طلابه ابو الهدى الصيادي الرفاعي شيخ ومعلم السلطان عبد الحميد العثماني في هذه البيئة نشأ (طه) في كنف أب تقي ورع اراد لابنه تربية اسلامية خالصة مع الأخذ بآداب العربية واسرارها وقبل ان يدرك العاشرة من عمره اصيب بالجدري فافقده باصرته اليمنى مما اثر في نفسه لكن لم تحد من نشاطه ولم تمنعه من الدراسة والاستقصاء ولذكائه وطموحه رأى ان قريته الصغيرة لا تتسع لآماله فعزم على الرحيل الى بغداد وهو غلام يافع وهكذا هجر راوه عام 1905 راكباً بغلته مع قافلة قاصدة مدينة بغداد وما ان وصلها حتى ذهب الى مدرسة خضر الياس في الكرخ لم يمكث طويلا فيها حتى انتقل الى مدرسة الامام الاعظم وهذه المدرسة اسسها الوالي العثماني جمال الدين الملقب بالسفاح عام 1910.
بدأ طه الراوي ثقافته الاولى على عادة البغداديين الى الحلقات في المساجد والمدارس وكانت دراسته النحو واللغة فدرس على طريقه أهل السلف وكان ولعه بالنحو فانكب عليه وامعن فيه ولما احس في نفسه التمكن مما درس انخرط في مجلس علامة العراق الشيخ محمود شكري الالوسي (1857 – 1924) وقرأ عليه ألفية ابن مالك وكان مجلس الشيخ الالوسي يضم صفوة الشباب ممن غدوا بعد اعلام نهضة العراق الادبية وكان طه الراوي اثيراً عند الالوسي اذ توسط له عند المسؤولين فأعفي من الخدمة العسكرية وكلف بتعليم رجال الجيش ومدربيه من الضباط قواعد اللغة العربية فانفسح له بهذا مجال جديد من الصلات بالناس بعد وفاة شيخه الالوسي سنة 1924 انتمى طه الراوي الى دار العلوم العربية والدينية ببغداد بعدها درس الدراسات القانونية في كلية الحقوق ونال شهادتها سنة 1925 وكان اول اقرانه الناجحين وبعد سنة من تخرجه عين مديراً للمطبوعات العربية في مديرية الدعاية العامة واثناء تسنمه وظيفته خلع زيه العربي القديم العمامة والجبة واتخذ زي الموظفين المدنيين لكنه بقي محافظا في روحه وعمله ثم عين استاذاً للآداب العربية وتاريخ الاسلام في دار المعلمين العالية واسند اليه تدريس علم البلاغة والتفسير وتاريخ العرب والاسلام في جامعة ال البيت وفي عام 1928 عين اميناً لمجلس الاعيان، بنقل الدكتور منير بكر التكريتي بكتابه ادباء صحفيون عن ناصر الحاني فيقول حدثني طه الراوي ذات مرة انه عرض عليه التدريس في كلية الحقوق البغدادية فأبى لان باعه في العربية ابعد ورغبته فيها تغلب سواها ورشح لوظائف عالية في الدولة لما اتصف به من نزاهة واخلاص لكنه كان يدفع طالبيه من ذوي الشأن الذين ارتضوا ان تعهد كثير من المهمات لغير المختصين وظل امينا لمجلس الاعيان تسع سنوات اتاحت له عقد صلات وصداقات وثيقة بالذين تولوا مناصب الدولة ومجالس التشريع وقد خبرهم وخبروه ومن مآثره انشاء مكتبه مجلس الاعيان وقد حفلت بما تخيره من امهات الكتب في السياسة والتشريع والتاريخ والثقافة العربية والاسلامية وفي هذه المرحلة يذكر الدكتور منير بكر التكريتي من حياته زار تركيا وسورية ومصر وافادته هذه الزيارات في التعرف على تلك الاقطار اذ اتصل برجال العلم والادب وافاد علماً وتجربة وتوسم فيه رجال المجمع العلمي العربي بدمشق كفاءة علمية وتضلعا في علوم العربية فاختاروه عضوا في هذا المجمع سنة 1933 وشاركهم بالمراسلة ببحوثه ونشر محاضراته في سنة 1937 اسندوا اليه منصب مدير المعارف العامة وهذا المنصب من المناصب الشاقة المتعبة لتعدد المشكلات والقضايا وقد اثنى عليه الشاعر الوزير محمد رضا الشبيبي ثناء حسنا لما يتمتع به من غزارة علم وسمو اخلاق، لم يطل بقاء الراوي بكرسي المعارف فتحول الى التدريس في دار المعلمين العالية سنة 1939 وكانت هذه المرحلة من حياته احفل ايامه بالبحث والنشاط والانتاج والنشر والكتابة في الصحف في موضوعات يعالجها معالجة خفيفة سهلة ويعالجها معالجة دقيقة.
مجلس الاستاذ طه الراوي:
كان مجلسه في بيته ندوة من ندوات بغداد الادبية يختلف اليها كثير من الادباء ووجوه القوم من طالبي المعرفة والنخبة الممتازة من الاساتذة والشعراء يذكر ابراهيم الدروبي بكتابه البغداديون اخبارهم ومجالسهم فيقول العلامة السيد طه الراوي علم من اعلام العلم والادب في بغداد ورجل له ذكره الحسن وأثره الخالد ثم يمضي فيقول كان له مجلس جامع عامر يرتاده العلماء والادباء والكبراء تبحث فيه المشاكل العلمية والطرائف الادبية وتسمع منه اخبار السالفين وتقص انباء الراحلين فهو اشبه بمجمع علمي او منتدى ادبي او محفل سياسي.
مقالاته
يذكر منير بكر التكريتي بكتابه ادباء فيقول عكف الراوي منذ صباه على العمق في البحث ودراسة نفائس الذخائر من آثار السلف مما هيأه للخوض في موضوعات مختلفة اذ برزت مواهبه في اكثر من مجال فأثر تأثيراً بارزاً في الحياة العلمية في العراق وبخاصة فيما يتعلق بالثقافة العربية والادب العربي بما نشر من مقالات وبحوث ودراسات فيها النحو واللغة والفقه وهي تدل دلالة واضحة على تضلعه في تلك العلوم اذ كان استاذا لا يبارى في اللغة وثقة في ادب العرب قبل الاسلام كما كان استاذا في النحو منقطع النظير وله دراسات متنوعه في شتى فنون اللغة والعلوم العربية والاسلامية وابحاثه من امتع البحوث كان رحمه الله كالسيل اذا تحدث واذا حاضر اذ كان بليغ الكلام ناصع الحجة قوي التعبير انيس المجلس حاضر البديهة.
طه الراوي وقضية فلسطين:
كانت قضية فلسطين الشغل الذي شغله بآخر حياته واستحوذ على افكاره فكتب عنها الشيء الكثير مبينا مظالم الغرب وتشجيعهم اليهود وعطفهم عليهم دون سواهم فكتب في جريدة الزمان في العدد 2702 سنة 1947 مقالا بعنوان (فلسطين والدنيا الجديدة) فقال ان عرب فلسطين ومن ورائهم عرب الدنيا ومن وراء هؤلاء مسلمو العالم وكل هؤلاء لا يرضيهم ان تكون فلسطين مسرحا لأذناب الغرب وشذاذ الأفاق لأنها قبلتهم الاولى.
طه الراوي والرئيس الاميركي
يبلغ طه الراوي الذروة في مهاجمة الاستعمار وبيان اساليبه وخداعه ومراوغته في هذه القضية ويقول ما شأن (قرومان) واشياعه بقضية فلسطين وهل فلسطين احدى المقاطعات الاميركية؟ ولو صدق ثرومان في دعواه وصدق صهاينة الدنيا الجديدة معه لسعى وسعوا الى فتح ابواب الهجرة الى مملكتهم ويظهر لي ان صهيوني اميركا لا يريدون ان يفتحوا باب الهجرة ليهود العالم الى مملكتهم لأنهم على يقين بان هذا الفتح سيفتح عليهم بابا من الشر لا يمكن سده بعد ذلك.
الراوي والانكليز:
اما آراؤه في موقف الانكليز من قضية فلسطين فقد عبر عنه بانه موقف عجيب وغريب يظهرون للعرب خلاف ما يضمرون ولا يدري اهو حياد او تحايد لان الانكليز يظهرون بمظهر المشفق على حقوق العرب الحريص على صداقتهم ويقفون للصهاينة بمظهر المعارض الممانع وفي الباطن يؤيدونهم نفاق مهروا فيه من قديم.
طه الراوي والحكام العرب:
اما آراؤه من حكام العرب فقد أطلقها صريحة غير هياب او وجل من ظلمهم ونشرها على صفحات الصحف بمقالات تظهر في نبراتها روحه الوثابة ووطنيته الصادقة المنبعثة من نقدات خص بها اولئك الحكام وضمنت تلك المقالات الكثير من التقريع والوم كما وجه نقده للوزراء وكان يدلي في مناسبات كثيرة بآراء في شؤون السياسة وكانت تلك المقالات في اواخر حياته رحمه الله فكان لمعلم الجيل مؤلفات عديدة منها:
- ابو العلاء المعري.
- بغداد مدينة السلام.
- تاريخ علوم اللغة العربية.
- نظرات في اللغة والنحو.
توفي رحمه الله في 21/ ت1/ 1946.
ما قيل في تأبينه
قال في تأبينه الاب انستاس ماري الكرملي، انت في فؤاد كل من عرفك او سمع بك او اغترف من معين علمك الصافي الغزير الفياض. وذكراك خالدة مهما تقادم العهد وتعافيت السنون لأنك من اهل العلم واهل العلم احياء.
ورثاه مير بصري فقال: قيل في بعض معلمي الاغريق القدماء (ان تلامذته خير اثاره) ولاريب ان هذا القول يصح في استاذ العراق الاول المرحوم طه الراوي وقال توفيق السويدي: قد احببت صديقي الفقيد لميزة زادته في نظري اعجابا وهو ان تفكيره كان بعيدا عن تفكير بعض المعجبين وأريد بهذا ان طه الراوي لم يكن يتسم بالجمود بل كان يريد ان يساير الزمن ويواكب تطوراته وقال مؤرخ العراق عباس العزاوي، لا اخالني مبالغاً اذا قلت ان الفقيد استكمل ادب النفس وهو اصل التهذيب الحق واداة العلم الوافر وقال الدكتور مصطفى جواد في رثائه:
ارى الموت لم يترك لذي اللب مفزعاً غداة رمى طه فأصحى وروعا
فقدنا عميد الالمعين وذا النهى وذا الرأي محمود المفارس مونعا
هوى كهوي العبقريين لم يكن لقلبهم صبر على حمل ما وعى
ابا هاشم اضحى مصابك شاملا فكيف التأسي والأسى قد توزعا
ترجم لحياته رحمه الله الكثير من الكتاب والباحثين منهم ابراهيم الدروبي في كتابه البغداديون ومير بصري بكتابيه اعلام الادب في العراق الحديث وكتاب اعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث كما ألف ولده حارث الراوي كتابا خاصا عن والده (طه الراوي) والدكتور منير بكر التكريتي بكتابه ادباء صحفيون اضافة الى الصحف والمجلات التي تناول فيها العلماء حياة المرحوم طه الراوي