كيف يُغيّر الذكاء الاصطناعي المشهد الصحفي في دول الجنوب العالمي؟

 

 

متابعة ـ التآخي

أحدث الذكاء الاصطناعي تحولات في الصحافة في جميع أنحاء العالم، إلا أن الخطاب السائد بشأن تأثيره يُهيمن إلى حد كبير من وجهات نظر الدول الشمالية.

وأصدرت مؤسسة طومسون رويترز (TRF) تقريرًا جديدًا، استنادًا إلى نتائج استطلاع الرأي الذي شمل أكثر من 200 صحفي من أكثر من 70 دولة في الجنوب العالمي والاقتصادات الناشئة، لمعالجة هذه القضية.

والجنوب العالمي يشمل أفريقيا، وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وجزر المحيط الهادئ والبلدان النامية في آسيا بما فيها الشرق الأوسط. وتعد البرازيل والهند وإندونيسيا والصين، إلى جانب نيجيريا والمكسيك، أكبر الدول الجنوبية من حيث مساحة الأرض والسكان.

وتُسلط الدراسة، التي قام بإعدادها  داميان رادكليف وهو أستاذ صحافة بجامعة أوريجون، وزميل لدى مركز تاو للصحافة الرقمية بجامعة كولومبيا،، الضوء على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي، والتحديات الفريدة التي تواجهها غرف الأخبار، والآثار المترتبة على ذلك بالنسبة للصحفيين، وقادة غرف الأخبار، فضلاً عن الجهات الممولة، وصُناع السياسات.

 

نتائج الدراسة

وفيما يلي بعض النتائج الرئيسة التي خلصت إليها الدراسة، اذ تبين ان الذكاء الاصطناعي يستعمل على نطاق واسع، لكن بوتيرة غير متساوية.

وكشف استطلاع الرأي عن  حالة من “التفاؤل الحذر” بشأن توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو شعور قد  يخفي حقيقة أن الاعتماد على هذه التقنيات في عينة التقرير من دول الجنوب العالمي يُشكل عنصرًا جوهريًا، إذ أشار أكثر من ثمانية من كل عشرة صحفيين (81.7%) إلى أنهم يستعملون أدوات الذكاء الاصطناعي في عملهم.

ويستغل ما يقرب من نصفهم (49.4%) أدوات الذكاء الاصطناعي يوميًا، مما يوضح السرعة الذي اندمجت بها هذه الأدوات في أعمالهم الصحفية اليومية.

ويستخدم الصحفيون تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي بشكل أساسي في صياغة المحتوى وتحريره، وعملية التحقق من المعلومات، وإجراء الأبحاث. وقد أصبحت أدوات مثل ChatGPT، وGrammarly، وOtter، وCanva وغيرها، ضرورية لعديد الصحفيين، نظرًا لقدرتها على توفير الوقت، وتحسين الكفاءة، وتعزيز الإبداع وتطوير الأفكار.

 

 

وكما يقول أحد الصحفيين من غانا “لقد عزز الذكاء الاصطناعي عملي الصحفي بشكل كبير، اذ ساعدني في تبسيط عمليات البحث، ومكنني من تحليل البيانات المعقدة بسرعة، بخاصة في عدة مجالات مثل أبحاث فيروس نقص المناعة البشرية، والتقارير البيئية”.

اما العوائق التي تحول دون تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي تتمثل في الوصول والتدريب وغياب السياسات.

وبرغم الحماس الكبير بشأن استعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي، فقد كشف استطلاع الرأي عن واقع مختلف، وأفاد 13% فقط من عينة المشاركين بالبحث بأن غرف الأخبار التي يعملون بها لديها سياسة رسمية لتوظيف الذكاء الاصطناعي. ويؤدي غياب التوجيه المنظم إلى ترك استغلال هذه التقنيات غالبًا للصحفيين، مما يخلق تباينات في تطبيقها ويُثير أيضًا مخاوف أخلاقية يدركها الصحفيون جيدًا.

كما يواجه تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي عقبات أخرى، فقد أشار كثير من الصحفيين إلى أنهم يواجهون عدة تحديات مثل محدودية الوصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي، وارتفاع تكاليفها، ونقص التدريب، إلى جانب غياب التوجيه من جانب إدارتهم. وبالنسبة لبعض الصحفيين الذين يعملون في غرف الأخبار ذات الموارد المنخفضة، ما يزال استعمال الذكاء الاصطناعي يُشكل تحديًا بسبب العوائق المالية والتكنولوجية.

وأشارت نتائج الدراسة إلى حقيقة لافتة وهي أن ما يقرب من 58% من مستخدمي تقنيات الذكاء الاصطناعي قد تعلموا بأنفسهم من دون الحصول على تدريب رسمي من قبل أصحاب العمل، أو حصلوا على تدريبات قليلة في هذا المجال، مما يفتح الفرصة أمام الجهات الممولة، فقد أعرب كثير من الصحفيين عن رغبتهم القوية في الحصول على ورش العمل التي تركز على تعلُم تقنيات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب المبادئ الأخلاقية، ومعرفة سياسات غرف الأخبار التي يُمكن أن تساعدهم في التعامل مع إمكانات الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول.

ومن ناحية أخرى، فقد أوضح أحد مديري غرف الأخبار في الإمارات العربية المتحدة أنّ “الأُطر الأخلاقية الواضحة والمبادئ التنظيمية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار تُعد ضرورية للحفاظ على الشفافية والمحافظة على ثقة الجمهور، وخاصة بالنسبة للمحتوى الذي يتم توليد بتقنيات الذكاء الاصطناعي”.

 

مخاطر الذكاء الاصطناعي

المخاطر الناجمة عن استعمال الذكاء الاصطناعي تمثلت في المعلومات المُضللة والتحيز والأمن الوظيفي؛ وبرغم الفوائد الكثيرة للذكاء الاصطناعي، إلا أن الصحفيين يظهرون حذرهم أيضًا من مخاطره. وقد لخص أحد المحررين في باكستان هذا الأمر قائلاً “يُمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تُعيد تشكيل الصحافة بالكامل، وذلك عن طريق توفير أدوات تُعزز الكفاءة وتُحسن عملية إنتاج المحتوى. ومع ذلك، ما يزال هناك غموض بشأن ما إذا كان هذا التغيير سيكون إيجابيًا تمامًا”.

 

 

 

من بين المخاوف الرئيسة التي أعرب عنها المشاركون في الاستطلاع، المعلومات المُضللة والتحيز: أعرب ما يقرب من نصف المشاركين (49%) عن قلقهم من أن تقوم تقنيات الذكاء الاصطناعي بتضخيم المحتوى الكاذب أو المُضلل، لاسيما أن معظم نماذج الذكاء الاصطناعي يجري تدريبها على قواعد بيانات يغلب عليها السياق الغربي.

وهناك خوف من تآكل المهارات الصحفية، اذ يخشى كثيرون من أنه قد يؤدي الاعتماد المفرط على تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى إضعاف الكفاءة التحريرية، والتغطية الصحفية الأصلية، والإبداع. وقال أحد المشاركين من أوغندا “لا ينبغي أن نسمح لتلك التقنيات بأن تحل محل التفكير النقدي”.

فقدان الوظائف: مع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في أتمتة مهام معينة مثل تلخيص الأخبار، وإنتاج المحتوى، تتصاعد مخاوف الصحفيين من تداعياته على فقدان الوظائف، وبخاصة في الوظائف المبتدئة. وأعرب أحد الصحفيين من كينيا عن مخاوفه قائلاً “أخشى أن يتسبب الذكاء الاصطناعي في جعل غالبية الصحفيين عاطلين عن العمل بسبب استحواذه على وظائفهم بوساطة الأنظمة المدعومة بهذه التقنية”.

وتتصاعد المخاوف أيضًا من أنه قد تؤدي تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى إنتاج محتوى نمطي يفتقر إلى التميُز. وكما يقول أحد المحررين من المملكة العربية السعودية “إذا استخدم الجميع الأدوات نفسها بالطريقة نفسها فقد يتسبب ذلك في فقدان الصحفيين لتفردهم وتميزهم”.

 

المسار المستقبلي: المخاوف الاخلاقية

في ظل التحولات التي أحدثتها تقنيات الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل ملامح المشهد الصحفي، أكد عديد المشاركين على الحاجة إلى إرشادات أخلاقية وأُطر تنظيمية على مستوى صناعة الصحافة، وأشار التقرير إلى أنّ أكثر من نصف الصحفيين (57.1%)  سلّطوا الضوء على المخاوف الأخلاقية بصفتها تمثل التحدي الأكثر إلحاحًا الذي يرونه في المدى القريب.

وفي هذا الصدد، يدعو بعض الصحفيين إلى تواجد سياسات شفافة في مجال الذكاء الاصطناعي التي تُلزم غرف الأخبار بالإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي في إعداد التقارير الإخبارية، فيما يطالب آخرون بوضع لوائح حكومية وصناعية لمعالجة مشكلات المعلومات المُضللة، وخصوصية البيانات، والوصول العادل إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار في الأسواق النامية.

وقال صحفي من روسيا “سيكون من الجيد أن نرى مزيدا من المناقشات بشأن القضايا الأخلاقية المتعلقة باستغلال الذكاء الاصطناعي في المجتمع المهني”، مضيفًا  “أشعر بالقلق من أن السعي إلى جذب الجمهور وزيادة عدد الزيارات قد يدفع بعض المنشورات إلى إهمال المعايير الصحفية”.

ويرى الصحفيون في الجنوب العالمي أن أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي هي أداة يمكنها تعزيز عملهم، إذا جرى استعمالها بشكل مسؤول.

ويوضح أحد المشاركين في الاستطلاع من الهند هذه المفارقة قائلاً “يُمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي أن تُقدم مزايا كبيرة مثل السرعة، وتحليل البيانات، والكفاءة، مما يُعزز انتشار الصحافة وإمكانية الوصول إليها؛ ومع ذلك، فإنه يطرح أيضًا تحديات مثل انتشار المعلومات المُضللة، والمخاطر التي تهدد نزاهة الصحافة، مما يجعل تأثيرها العام متباينًا لكنه يبقى محملاً بقدر من التفاؤل الحذر”.

 

الاستنتاج: دعوة إلى التحرك

وقد اختتم التقرير بتقديم مجموعة من التوصيات الموجهة للصحفيين، والجهات الممولة، ومنظمات تطوير الإعلام، وصناع السياسات وذلك حتى يُسهم الذكاء الاصطناعي في تطوير الصحافة في الجنوب العالمي، وتتمثل هذه التوصيات في خمسة مجالات رئيسة: (1) التدريب وتطوير المهارات: الاستثمار في التثقيف والمعرفة بأدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي والتدريب الأخلاقي للصحفيين.

(2) الأطر الأخلاقية: صياغة مبادئ إرشادية تُعزز الشفافية والمساءلة في داخل غرف الأخبار ومشاركتها مع الجمهور.

(3) التعاون في قطاع الصناعة: تشجيع الشراكات بين المؤسسات الإعلامية والمطورين والجهات الممولة لتطوير أدوات الذكاء الاصطناعي التي تُلبي احتياجات الصحافة المتنوعة.

(4) التنظيم والسياسات: وضع الضمانات القانونية المطلوبة لحماية دور الصحافة (بما في ذلك مصادر المعلومات) في عصر الذكاء الاصطناعي، مع اتخاذ الإجراءات الفعالة لمعالجة التحيزات الغربية والهيمنة المرتبطة باللغة الإنجليزية في أنظمة الذكاء الاصطناعي.

(5) الوصول العادل: التأكد من أن فوائد الذكاء الاصطناعي غير مقتصرة على غرف الأخبار الكبيرة، وذات الموارد الوفيرة.

ومع تسارع تبنّي تقنيات الذكاء الاصطناعي، يتعين على الصحفيين، وغرف الأخبار وصناع السياسات العمل معًا لضمان أن تعمل هذه التكنولوجيا على تعزيز المبادئ الأساسية للصحافة بدلاً من إضعافها.

وبرغم الانتشار الواسع لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، فقد أعرب 42% فقط من عينة الدراسة عن تفاؤلهم بشأن مستقبل استخدام هذه التقنيات، مما يشير إلى أن الآراء لا زالت متباينة بشأن التأثير المحتمل لهذه الأدوات. ويوضح التقرير هذه المخاوف وكيفية معالجتها. وسيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كان مؤشر الذكاء الاصطناعي سيتغير في السنوات المقبلة، وما إذا كان الصحفيون في الجنوب العالمي سيستمرون في رؤية الذكاء الاصطناعي بصفته أداة مفيدة لعملهم، أو كمسؤولية أو تهديد محتمل لعملهم في المستقبل.

 

مصدر المخاوف على الإعلام

يأمل عاملون بمجالات صناعة الأخبار أن يؤدي الطوفان الوشيك من المحتوى المنتج بواسطة الذكاء الاصطناعي إلى تعزيز مكانة الصحافة واستعادة الثقة بوسائل الإعلام، وبالمقابل يخشى آخرون أن يفقد عامة الناس ثقتهم في كل المعلومات غثها وسمينها، وهو ما يهدد بتبعات سياسية واجتماعية في شتى أنحاء العالم.

ولكن في كل الأحوال، يعتقد خبراء ومسؤولون تنفيذيون في صناعة الأخبار، أن شهية الحكومات قد انفتحت لتنظيم قطاع الذكاء الصناعي العملاق وتعزيز حضورها فيه، فأين موقع وسائل الإعلام ومؤسسات الأخبار والصحافة لا سيما الرقمية منها؟

وقد حاول التقرير السنوي لمعهد رويترز لدراسة الصحافة الصادر عام 2024، إجابة بعض هذه الأسئلة المتعلقة بتحولات الإعلام والتكنولوجيا، واجتهد لتقديم التنبؤ والتحليل لتطورات المشهد الإعلامي العالمي عبر استطلاع آراء أكثر من 300 قيادي بصناعة الإعلام من أكثر من 50 دولة وإقليما من بينهم عشرات رؤساء التحرير والرؤساء التنفيذيين والمديرين الإداريين ورؤساء الأقسام الرقمية في المؤسسات الإعلامية الرائدة حول العالم.

يتناول التقرير التحديات والفرص التي واجهت وسائل الإعلام في عام 2024، وأشرف عليه نيك نيومان الباحث في معهد رويترز لدراسة الصحافة، وهو المؤلف الرئيس لعدد من تقارير الأخبار الرقمية السنوية التي تصدر عن معهد رويترز منذ عام 2012.

يدق التقرير جرس الإنذار أمام الصحفيين ومؤسسات الإعلام لا سيما مديري الأقسام الرقمية منها، محذرا من تطور التكنولوجيا بسرعة هائلة يعجز المتابعون عن استيعابها وفهمها، ويطالب المؤسسات الإخبارية ذات التفكير المستقبلي ببناء محتوى وتجارب فريدة لا يمكن استنتساخها وإعادة إنتاجها بسهولة من قبل الذكاء الصناعي الذي سيسيطر على إنتاج الأخبار والمحتوى بحلول 2026، كما يقول التقرير.

ويضع التقرير أمام الصحفيين وقادة مؤسسات الإعلام خطة النجاة عبر تطوير الأخبار المباشرة، والتحليل العميق، واعتماد التجارب البشرية المبنية على التواصل، وكذلك تطوير تنسيقات الصوت والفيديو الأطول التي يتوقع أن تصمد أكثر من النص أمام زحف الذكاء الصناعي.

لا يدعو التقرير للمواجهة مع التكنولوجيا الجديدة، وإنما يحث على استغلال التقنيات – بما فيها الذكاء الصناعي – لجعل عمل الصحافة والإعلام أكثر كفاءة في مناخ اقتصادي يزداد صعوبة، وفي الوقت ذاته يدعو لاستعمال تلك التقنيات في نشر المحتوى وتوزيعه ليكون أكثر ملاءمة لجمهور مختلف ومتنوع، وتخصيص المحتوى لجمهور معين.

وبرغم أنه من الصعب التنبؤ بتأثير الذكاء الاصطناعي على مجال الصحافة والإعلام الرقمي، جرى تحديد أن عام 2024 كان فاصلا بالنسبة للموقف من التكنولوجيا الجديدة للذكاء الاصطناعي، ويعتمد ذلك على سلوك منصات ووسائل الإعلام نفسها، كما يتأثر بنتائج القضايا القانونية والفكرية المتعلقة بالملكية الفكرية، التي يمكن أن تفتح (أو تقيد بشدة) الطريقة التي يمكن بها استعمال المحتوى الإخباري لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي من دون تعويض مناسب.

ويتوقع التقرير أن تستمر الضغوط على غرف الأخبار على إثر الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط، فضلا عن تغير المناخ، وتداعيات الوباء، والانكماش الاقتصادي، وعلى الجانب التجاري، يتوقع أن يستمر تباطؤ سوق الإعلانات، وإلغاء ملفات الارتباط (الكوكيز) على إثر قوانين تنظيم الإنترنت، وتقليل الإحالة من المنصات الرقمية الكبيرة مثل مواقع التواصل، في تخفيض الوظائف على نطاق واسع في جميع مجالات الصحافة والإعلام.

قد يعجبك ايضا