صبحي مندلاوي
في صبيحة 16 آذار 1988، أمطرت السماء في مدينة حلبجة غازات الموت، وصار الهواء خنجرًا يقطع أنفاس الأطفال قبل الكبار. تكدّست الجثث في الأزقة، في الساحات، في أحضان الأمهات. لم تكن قذائف عادية، ولم يكن الدخان عابرًا.. كان الموت يتسلل مع كل نفس، يحرق الحناجر، يطفئ العيون.
لم تكن حلبجة مدينة عادية، بل كانت شاهدة على واحدة من أبشع الجرائم في تاريخ البشرية. لم تكن حربًا، بل كانت إبادة، ولم يكن القاتل مجهولًا، كان نظامًا جعل من دماء الكورد حبرًا يكتب به رسائل الرعب.
كانت المجزرة نموذجًا كلاسيكيًا للإبادة الجماعية الممنهجة التي استهدفت الشعب الكوردي ضمن حملة الأنفال. استخدم نظام صدام حسين الأسلحة الكيميائية كسلاح استراتيجي، ليس فقط لقتل آلاف المدنيين العزّل، بل لترهيب وإخضاع الكورد، وإرسال رسالة واضحة مفادها أن المطالبة بالحقوق ستُقابل بالإبادة.
لم تكن حلبجة ساحة معركة، بل كانت مدينة تنبض بالحياة. شوارعها ضاقت بأجساد مسجّاة، لم تحمل سلاحًا، ولم ترتكب ذنبًا سوى أنها كوردية. آلاف الأرواح أُزهقت بغدر الغازات السامة، ولم يكن هناك صوت سوى أنين الموتى وصرخات من لم يلحقهم الموت سريعًا.
كانت المجزرة جزءًا من سياسة تعريب وإبادة مدروسة، هدفها كسر شوكة الحركة التحررية الكوردية ومعاقبة أي شكل من أشكال التمرد. لم يكن الأمر مجرد انتقام عسكري، بل كان قرارًا سياسيًا يعكس نهج النظام في التعامل مع القوميات غير العربية، وهو ما يجعلها جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس.
لم تكن المجزرة مجرد جريمة، بل كانت رسالة من نظام متعطش للدماء، مفادها أن الكوردي يجب أن يموت. لكنه لم يمت. مات الجلاد وبقيت حلبجة، شاهدة على ظلم لم يطوه النسيان، وجرحًا مفتوحًا في ذاكرة شعب يأبى أن يُمحى.
لكن الجريمة لم تنتهِ هناك.. بعد 2003، حين سقط النظام الذي أبادها، لم تحصل حلبجة على حقها. اعترفت الحكومات العراقية بالمجزرة، لكنها لم تعترف بحق الضحايا في العدالة. لم تدفع تعويضًا، لم تمسح دموع الأمهات اللواتي فقدن عوائلهن، لم تعالج الناجين الذين ما زالوا يتنفسون بصدور محترقة. حتى حقها الإداري، أن تكون محافظة، تأجل وتعثر، رغم أن برلمان كوردستان منحها هذا الاعتراف منذ 2014.
حلبجة لم تُقتَل مرة واحدة، بل قُتلت مرتين. مرة حين غطّاها السُم، ومرة حين تركتها الحكومات العراقية بعد 2003 وإلى يومنا هذا طي النسيان، بينما بقيت صرخة المدينة حية في وجدان الكورد، شاهدة على ظلم لم يُغلق بابه بعد.