د. ابراهيم احمد سمو
شهدت السياسة التركية في الآونة الأخيرة و بالذات الامس و اليوم تطورًا مفاجئًا قد يعيد تشكيل المشهد الإقليمي، خاصة فيما يتعلق بسوريا والقضية الكوردية. فزيارة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى دمشق حملت رسائل ذات دلالات عميقة، حيث تحدث عن ضمان حقوق الكورد ، وضرورة تصفية الخلافات معهم بدلًا من تأجيج الصراع. هذه التصريحات تمثل تحولًا جوهريًا في السياسة التركية التي كانت حتى الأمس القريب تتبنى نهجًا صارمًا تجاه الكورد، خصوصًا في سوريا.
يأتي هذا التغير في وقت يشهد فيه العالم إعادة ترتيب لموازين القوى، حيث لم تعد التحالفات التقليدية كافية لضمان المصالح القومية للدول. فمع تزايد الضغوط الاقتصادية والسياسية على أنقرة، يبدو أن القيادة التركية تسعى إلى إعادة ضبط سياساتها الخارجية، خاصة بعد سنوات من المواجهة المباشرة مع الكورد في سوريا والعراق.
تصريحات أردوغان: بين الواقعية السياسية والبحث عن حلول
تزامن هذا التغير مع تصريحات عديدة للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أكد فيها أن التعصب القومي لا يخدم أي طرف، وأن الأتراك والكورد إخوة، لا ينبغي لأي منهما الانجرار إلى التطرف. هذه التصريحات، رغم أنها تحمل طابعًا تصالحيًا، إلا أنها تأتي في سياق تحولات أوسع تشهدها تركيا، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
داخليًا، تواجه تركيا تحديات اقتصادية متزايدة، ما يجعل من الضروري تخفيف حدة الصراعات الإقليمية والتركيز على الاستقرار السياسي. فالحكومة التركية تدرك أن استمرار المواجهات المسلحة في سوريا والعراق يستنزف مواردها ويزيد من الضغوط على الليرة التركية، التي فقدت الكثير من قيمتها في السنوات الأخيرة.
أما خارجيًا، فهناك ضغوط متزايدة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على أنقرة لإعادة النظر في سياساتها تجاه الكورد، خاصة بعد أن أصبحت القضية الكوردية جزءًا من التفاهمات الدولية حول مستقبل سوريا.
التحولات الإقليمية: إعادة ترتيب الأوراق
التغير في موقف تركيا يأتي في وقت تشهد فيه المنطقة تحولات عميقة. فمع عودة الحديث عن إعادة تشكيل التحالفات الدولية، أصبح من الضروري بالنسبة لأنقرة أن تتكيف مع المعطيات الجديدة.
في أوروبا، بدأت خارطة الاتحاد الأوروبي تشهد تغيرات ملحوظة، خاصة مع صعود قوى سياسية جديدة تؤثر على توجهات الاتحاد في قضايا الشرق الأوسط. كما أن الحرب في أوكرانيا فرضت واقعًا جديدًا، حيث باتت الأولويات الأوروبية مختلفة عما كانت عليه قبل سنوات، ما قد يدفع تركيا إلى تعديل سياساتها الخارجية بما يتماشى مع هذه التغيرات.
أما على الساحة الدولية، فتشير بعض المؤشرات إلى أن الولايات المتحدة وروسيا قد تكونان في طريقهما إلى تفاهمات جديدة، خاصة فيما يتعلق بالملف السوري. فواشنطن، رغم دعمها التقليدي للكورد، لا تريد صدامًا مباشرًا مع أنقرة، خصوصًا في ظل التحديات التي تواجهها في شرق آسيا مع الصين. أما روسيا، فتسعى إلى الحفاظ على نفوذها في سوريا، لكنها تدرك أن استقرار المنطقة يتطلب تفاهمات أوسع مع تركيا وإيران.
في هذا السياق، تواجه الصين وإيران خيارين: إما تعديل سياساتهما للتكيف مع التغيرات الجديدة، أو مواجهة عزلة دولية قد تكون طويلة الأمد. فإيران، التي تعتمد على نفوذها في المنطقة لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، قد تجد نفسها مضطرة إلى تقديم تنازلات، خاصة مع استمرار الضغوط الأمريكية والإسرائيلية عليها. أما الصين، التي تسعى إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، فقد تحتاج إلى إعادة تقييم موقفها من القضايا الإقليمية لضمان استمرار علاقاتها الاقتصادية مع الدول الكبرى.
الكورد: بين التفاؤل والحذر
في ظل هذه التحولات، يبدو أن الكورد في وضع أفضل مقارنة بالسابق. فمع تغير مواقف القوى الإقليمية والدولية، تزداد فرص تحقيق مكاسب سياسية جديدة، سواء في سوريا أو العراق. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات كبيرة، خاصة مع استمرار بعض الفصائل الكوردية في تبني سياسات قد تصطدم مع المصالح الإقليمية والدولية.
تركيا، التي كانت حتى الأمس القريب تخوض معارك ضارية ضد الكورد في سوريا، باتت اليوم تتبنى لهجة أكثر تصالحية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذا التحول يعكس تغييرًا حقيقيًا في السياسة التركية، أم أنه مجرد مناورة سياسية تهدف إلى تحقيق مكاسب مؤقتة؟
من المعروف أن تركيا استخدمت في الماضي سياسة المناورات والتكتيكات المؤقتة، خاصة في الملفات الحساسة مثل الملف الكوردي. فخلال السنوات الماضية، شهدت العلاقات بين أنقرة والكورد تقلبات حادة، حيث انتقلت من فترات تهدئة ومفاوضات إلى مواجهات عسكرية مباشرة. لذا، من الضروري الانتظار لمعرفة ما إذا كان هذا التغيير في الموقف التركي سيستمر على المدى الطويل أم أنه مجرد استجابة لضغوط آنية.
النتيجة: عالم متغير ومواقف متبدلة
العالم اليوم يشهد تحولات متسارعة، حيث لم تعد التحالفات التقليدية تضمن استقرار الدول. فالولايات المتحدة تعيد ترتيب أولوياتها، وروسيا تسعى إلى تعزيز نفوذها في مناطق جديدة، فيما تحاول الصين وإيران التكيف مع المستجدات الدولية.
في هذا السياق، تركيا تجد نفسها أمام واقع جديد يتطلب منها إعادة النظر في العديد من سياساتها، خاصة فيما يتعلق بالملف الكوردي. ومع أن التصريحات الأخيرة تشير إلى نهج أكثر تصالحية، إلا أن التجربة الماضية تدعو إلى الحذر في التوقعات.
الأيام القادمة ستكشف ما إذا كانت هذه التحولات ستترجم إلى خطوات فعلية على الأرض، أم أنها ستظل مجرد تصريحات إعلامية لا تغير من الواقع شيئًا. فما بين المصالح الإقليمية، والتوازنات الدولية، والتحديات الداخلية، ستظل القضية الكوردية واحدة من الملفات الأكثر تعقيدًا في السياسة التركية، وربما في مستقبل الشرق الأوسط بأكمله.