البارزاني مصطفى… ولادة قائدٍ في قلب الثورة

ب. د. ابراهيم احمد سمو

في مثل هذا اليوم، الرابع عشر من آذار، وُلِد رجلٌ لم يكن مجرد فردٍ في سياق التاريخ، بل كان روحًا تسري في شعبٍ ناضل عبر الأزمان، شعبٍ دعا امته إلى القوة والإخلاص، وتمسّك بحلمه في الحرية رغم كل العواصف. لم تكن ولادته حدثًا عابرًا، بل كانت نقطة تحوّلٍ جمعت شتات أمةٍ فرّقتها الجغرافيا والسياسات، فتوحدت في بودقة البندقية وحبّ الانتماء، في نضالٍ سياسيٍ وثوريٍ امتد لعقود.

البارزاني مصطفى، الأب الروحي للكُورد، لم يكن مجرد قائدٍ عابرٍ في تاريخ الحركات التحررية، بل كان مرجعًا ملهمًا لأجيالٍ حملت لواء النضال دون ترددٍ أو خوف، ودون طمعٍ في الامتيازات. كان نهجه مدرسةً تُعلّم الإيمان بالقضية والتضحية من أجلها، فلم يكن النضال بالنسبة إليه مجرد شعارات، بل ممارسةً يوميةً سطّرها بقلمه وسلاحه معًا.
 
من بارزان إلى مهاباد… سيرةُ نضالٍ لا تنطفئ
وُلِد البارزاني في بيئةٍ مشبعةٍ بالنضال، فحمل السلاح منذ صباه، مؤمنًا بأن الحرية لا تُوهب بل تُنتزع. لم يكن موقعه الجغرافي في بارزان إلا مقدمةً لرحلةٍ طويلةٍ ستقوده إلى أكثر من ساحة معركة، وأكثر من منفى، وأكثر من نصرٍ وانكسار. عندما قامت جمهورية مهاباد عام 1946، كان هناك، ليس فقط كشاهدٍ على التجربة، بل كجنرالٍ يقود قواتها ويدافع عن حلمٍ كوردي لم يكتمل آنذاك. لكن سقوط مهاباد لم يكن نهاية الطريق، بل بداية فصلٍ جديدٍ من الكفاح.
عبر مع رفاقه نهر آراس بشقّ الأنفس، ليجد نفسه في الاتحاد السوفيتي، حيث أعاد تنظيم الصفوف، مؤمناً بأن النضال لا يتوقف عند حدود الجغرافيا أو هزائم اللحظة. وبعد سنواتٍ عاد إلى العراق مع انقلاب 1958، حين أُطيح بالنظام الملكي، واستُقبِل استقبال الفاتحين، ليس فقط من الكُورد، بل حتى من العرب الذين رأوا فيه قائدًا يحمل رؤيةً تتجاوز العرق والطائفة.
 
ثورة أيلول… ولادة جديدة للنضال
لكن السياسة لا تعرف الاستقرار، وما أن بدأت ملامح الخلاف بين القيادة العراقية والحركة الكوردية حتى عاد البارزاني إلى الجبال، ليقود أعظم ثورةٍ في التاريخ الكُوردي المعاصر: ثورة أيلول 1961. كانت هذه الثورة مفصليةً، ليس فقط لأنها وحّدت الكُورد تحت رايةٍ واحدة، بل لأنها رسّخت مفهوم المقاومة المنظمة، حيث لم يعد النضال مجرّد عملياتٍ متفرقة، بل جبهةً واحدةً تضم مقاتلين من كل مدن كردستان. كان شابٌ من دهوك يقاتل في السليمانية، وآخر من أربيل في كركوك، في مشهدٍ يعكس وحدة المصير.
ما كان لإتفاقية آذار 1970 أن تُوقّع لولا تضحيات أيلول، وما كان لگولان 1976 أن تُولد لولا صمود البيشمركة. هذه الثورات لم تكن مجرد أحداثٍ عابرة، بل تراكمًا تاريخيًا أدّى إلى انتفاضة 1991، التي تزامنت مع ظرفٍ دوليٍ مناسب، فانتقلت الثورة من الجبال إلى المدن، وأسست لمرحلةٍ جديدةٍ من الحكم الذاتي، ببرلمانٍ وحكومةٍ كوردية وُلدت في عام 1992.
 
إرث البارزاني… الجبل الذي لا يهتز
لم يكن البارزاني مصطفى قائدًا سياسيًا فقط، بل كان رمزًا لإرادةٍ لا تُقهر. في كل مرحلةٍ من مراحل حياته، كان مستعدًا للمخاطرة بروحه، لا من أجل مجدٍ شخصي، بل من أجل قضيةٍ آمن بها حتى الرمق الأخير. لم يكن ممن يجلسون في القصور ويصدرون الأوامر، بل كان هناك، في الخطوط الأمامية، يحمل البندقية حين يكون ذلك ضروريًا، والقلم حين يكون ذلك واجبًا.
اليوم، نستعيد ذكرى ولادته، لا كحدثٍ تاريخيٍ فحسب، بل كنبراسٍ نستلهم منه روح النضال والوحدة. فالمسيرة التي بدأها لم تتوقف، بل استمرت عبر أبنائه وتلامذته، وفي مقدمتهم الرئيس مسعود البارزاني، الذي واصل النهج ذاته، مدافعًا عن حقوق الكُورد في كل المحافل.
في هذه المناسبة، نهنئ أنفسنا والكُورد والبشرية جمعاء، بولادة هذا الجبل الأشم، الذي منه انطلقت ثوراتٌ لا تزال تلهم الأحرار. فالبارزاني لم يكن مجرد قائد، بل كان فكرةً، وأفكار القادة العظام لا تموت، بل تستمر لتُنجِبَ أبطالًا يحملون الراية جيلاً بعد جيل.

قد يعجبك ايضا