صبحي مندلاوي
في مثل هذا اليوم، قبل ستةٍ وأربعين عامًا، أغمض الزعيمُ الخالدُ ملا مصطفى بارزاني عينَيْه على دنيا لم تكن عادلةً بحقه، لكنه ترك وراءهُ أمّةً تحملُهُ في قلوبِها، وتاريخًا من النضالِ لا تمحوهُ السُّنون. لم يكن قائدًا عاديًّا، بل كان روحًا تسري في شرايينِ الجبال، وصوتًا يترددُ صداهُ في كلِّ بيتٍ كورديٍّ، وصرخةَ حريةٍ لم تخفتْ يومًا.
في سفوحِ الجبالِ، حيثُ تُختبرُ الإراداتُ وتصقلُ الرجالُ، عاشَ البارزانيُّ الأب أقسى المصاعبِ وأشدَّ المحنِ، لكنه لم ينحنِ لعاصفةٍ، ولم يتراجعْ أمامَ جدارٍ بدا مستحيلًا. لم يخترِ الجبالَ حبًّا في القسوة، بل لأنَّ الجبالَ وحدَها كانت تعرفُ معنى الحرية. هناك، وسط الثلوجِ التي تلسعُ العظامَ، وتحتَ سماءٍ لم تكنْ دائمًا رحيمةً، واجهَ بردَ الطبيعةِ وقسوةَ الأعداءِ بصلابةٍ لا تلينُ. في الليالي الطويلةِ، حيثُ ينامُ الخوفُ في عيونِ الرجالِ، كان هو الوحيدَ الذي لا تغفو عيناهُ، يطوفُ بينَ البيشمركةِ، يواسي هذا، ويرفعُ معنوياتِ ذاك، لم يكن الجوعُ في تلك الأيامِ مجرّدَ كلمةٍ، بل كان واقعًا ينهشُ الأجسادَ، لكنه لم يفلحْ يومًا في كسرِ الإرادة. كان البارزانيُّ الكبير يجلسُ مع رفاقِه حولَ نارٍ خافتةٍ، يقتسمُ معهمُ الخبزَ القليلَ، ويشاركُهمُ البردَ القارسَ، كأنّهُ يقولُ لهم: “أنا منكم، وما يصيبُكم يصيبُني.” وحين اشتدَّ الحصارُ، لم يزِدْهُ ذلكَ إلا صلابةً، ولم يكنْ يتحدّثُ عن الصبرِ، بل كانَ يجسّدُهُ في صمتِه، وفي خطواتِه الثابتةِ بينَ الصخورِ الوعرةِ.
وحينما خذلتْهُ السياسةُ، وحاصرتهُ الدسائسُ، بقيتِ الجبالُ شامخةً باسمه، تحفظُ صدى صوته، وتحملُ حكاياتِه، لترويَها للأجيالِ القادمةِ: “هنا مرَّ رجلٌ لم يعرفِ الاستسلامَ.”
لقد قاتلَ لأجلِ قضيةٍ لم تكنْ يومًا حلمًا عابرًا، بل كانتْ قَدَرًا كُتبَ عليه أن يحملَهُ حتى آخرِ رمقٍ. وحين جاءَ الرحيلُ، لم يكنْ جسدُه وحدَهُ هو الذي غابَ، بل كانَ يومًا ثقيلًا على جبالِ كوردستانَ، التي بكتْ على قائدَها، وعلى الأنهارِ التي جرتْ دموعًا بدلًا من الماءِ، وعلى النجومِ التي أطفأتْ نورَها حزنًا على من كانَ ضوءَها في ليالي النضالِ.
الزعيم الخالد ملا مصطفى البارزاني لم يمتْ، فالأبطالُ لا يموتون، بل يتحولونَ إلى رموزٍ تتجددُ في كلِّ جيلٍ، وإلى راياتٍ يرفعُها كلُّ من سارَ على دربِ الكفاحِ. في كلِّ بيتٍ كورديٍّ، هناكَ صورةٌ للبارزانيِّ الأبِ، وفي كلِّ قلبٍ ينبضُ بحبِّ الحريةِ، هناكَ أثرٌ لصوتهِ، وفي كلِّ حلمٍ كورديٍّ بمستقبلٍ أفضلَ، هناكَ عهدٌ بأنَّ التضحياتِ لا تضيعُ سدى.
سلامٌ على روحِك أيها الخالدُ في ضميرِنا، وسلامٌ على دربِكَ الذي رسمتَهُ بالدمِ والشرفِ، وسلامٌ على الحلمِ الذي زرعتَهُ في قلوبِنا ولن تقتلعهُ الأيامُ.