مَن عليه أن يتعلم من تاريخه؟

 

 

د. ولات ح محمد

أمام كل تجربة جديدة يخوضها الكوردي من أجل الحصول على بعض حقوقه المشروعة التي طمستها المصالح الدولية قبل قرن من الزمن، يظهر علينا بعض المتنطعين المتفذلكين في الكلام من المعادين لتلك الحقوق للتشكيك في العقلية الكوردية، إذ يرددون أن “الكورد لا يستفيدون من تاريخهم” وأنهم لذلك يكررون مآسيهم. ويتفصح هؤلاء بالقول إن الكوردي يعمل منذ مائة عام على تحقيق حلمه ببناء دولته، وإنه يصر على تكرار تجاربه الفاشلة مرة ثانية وثالثة وعاشرة، ليعيش بذلك في دوامة من الفشل والتضحيات المجانية، ويشيرون في النتيجة ـ تصريحاً أو تلميحاً ـ إلى أن هذا يدل على قصور في العقل الكوردي وأن العاطفة دمرته عبر التاريخ ولم تبنِ له شيئاً مما في مخيلته البتة.

 

الخطير في هذه الفكرة/ الدعاية يتمثل في أمرين: الأول أن مثل هذا الخطاب يجعل الكوردي المظلوم هو الملوم والمذنب، وليس الآخر الظالم المغتصب العنصري الديكتاتوري المستبد المحتل. أما الثاني فهو أن تكرار هذه الفكرة والترويج لها على المنابر الإعلامية المتنوعة ومن قبل كل الجهات المغتصبة للحقوق الكوردية جعل حتى فئة من الكورد أنفسهم يظنون أيضاً ويرددون أن العلة تكمن حقاً في العقلية الكوردية التي تجنح للخيال وتتجاهل الواقع، وليس في عقلية الآخر العنصرية الديكتاتورية الإقصائية التي ابتلي بها الكوردي قبل قرن من الزمن فكان ما كان وما زال.

 

لا شك في أن قراءة المرء للتاريخ والتعلم منه نشاط عقلي يقوم على التحليل والاستنتاج بغية تفادي أخطائه وتجاربه الفاشلة أولاً، والبناء على الناجحة منها ثانياً، واتخاذ القرار المناسب الناجع وفق مقتضيات الحاضر ثالثاً، لكن مَن ذا الذي ينبغي ـ في هذا الموضوع تحديداً ـ أن يستفيد من دروس الماضي: الكوردي الذي يطالب بحقوقه التي لم يحصل منها على شيء حتى الآن، أم ذلك المتخلف عقلياً والمعوّق أخلاقياً الذي يصر على ذات الأساليب والأدوات التي يستخدمها ضد الكوردي منذ مائة عام، على الرغم من أنها لم تأتِ له يوماً بأية نتيجة ترضي فكره المريض؟!

 

الجواب يبدو واضحاً لكل منصف وذي عقل؛ فمَن مارس الباطل والظلم والإقصاء والتهميش بحق الكوردي على مدى مائة عام ولم يتمكن من إنهاء وجوده ولا من كسر إرادته وإيمانه بحقه المشروع، هو الذي عليه أن يستفيد من تاريخه الفاشل في ممارسة الظلم والإقصاء. أما الكوردي الذي أصر ويصر على حقوقه المشروعة فإنه تعلم من تاريخه أن كل من أجرم بحقه زال وأن حقه باق لا يموت وأنه سيكون بين يديه يوماً ما، طالما أنه حق وأن وراءه مُطالب، وطالما أن صاحبه لا يتعدى بذلك على حق أحد.

 

إذن، ليس الكوردي مَن يتوجب عليه التعلم من تاريخه ليتخلى عن حقوقه، بل أولئك المتفذلكين المتذاكين الذين يدّعون العقل والحكمة والدراية وبُعد النظر ويتعالون في كل ذلك على الكوردي (القاصر والغبي في نظرهم) ويتوجهون إليه بالنصح والإرشاد ويدْعونه للاستفادة من دروس التاريخ والتوقف عن الجري خلف السراب. هؤلاء هم الذين لم يستفيدوا من دروس التاريخ، هم الذين لم يتعلموا من تاريخهم أن أسلافهم مارسوا بحق الكوردي شتى أنواع القمع والترهيب والتجهيل والإقصاء والإلغاء والقتل، وأن الكوردي ـ مع ذلك ـ ظل موجوداً وزاد إيماناً بحقوقه وصارت إرادته أقوى مع كل تجربة لم تنجح ومع كل كبوة تعرض لها في رحلته نحو تحقيق أبسط جزء من تلك الحقوق.

 

عندما يتذاكى بعضهم على الكوردي ويدعونه للاستفادة من دروس التاريخ فإن التعلم من التاريخ يعني عندهم أن ينسى الكوردي حقوقه التي شرعتها له السماوات والأرضون، الآلهة والبشر، أما عندما يطالبهم الكوردي بالتعلم من دروس التاريخ فإنه يدعوهم إلى التوقف عن ممارسة الظلم والتعسف والإلغاء والإقصاء بحقه، لأن كل ممارسات أسلافهم في هذا الصدد عبر التاريخ لم تؤدِّ إلى ما كانوا يحلمون به؛ فالكوردي لم ينتفِ من الوجود ولم تُمحَ ذاكرته، ولم يمت إيمانه بوجوده وبحقوقه المشروعة. أما من انتهى وزال وذهب إلى مزبلة التاريخ الإنساني فهي الأنظمة المتعاقبة التي أجرمت بحق ذلك الكوردي.

 

لكل ذلك عُد إلى التاريخين القريب والبعيد وتأمل جيداً في سيرة أولئك البائدين كي تستفيد أنت من تاريخ الذين سبقوك وتفهم أن كل وسائلهم اللاإسانية عبر تلك الأزمان الطويلة والصعبة لم تؤدِّ إلى إنهاء الكورد، ولم تُدخل اليأس في قلوبهم، ولم تدفعهم إلى التوقف عن المطالبة بحقوقهم المشروعة، بل زادتهم إصراراً وتصميمياً وإيماناً، وذلك لأنهم أصحاب حق، والحق لا يموت..

 

هذا الذي تعلمه الكوردي من التاريخ، وهو ذاته الذي لم تتعلمه أنت بعد.. فمَن هو القاصر الذي ما زال يحبو في قراءة التاريخ والحاضر والمستقبل أيضاً

قد يعجبك ايضا