أطفال تحت الخطر

زكية حمو مائل

   قصة ذكرها روائي صديق بأنه كان يتباحث يوماً مع إحدى الشركات الفنية المنتجة بشأن أحد أعماله الدرامية، حين رن جواله بإلحاح ثلاث مرات متوالية. انتابه القلق، فاستأذن مضيفيه وفتح الاتصال. فإذا بابنته الصغرى ( هند ) تبادره باكية منتحبة: تعال حالاً يا أبي. أنا في مصيبة، ولن ينقذني أحد غيرك..
   تضاعف قلقه، وسألها أن تهدأ قليلاً، وتخبره عما جرى. فأعادت طلبها بوجوب رجوعه فوراً إلى البيت. فلما أنبأها أنه في دمشق، وأنه لا يستطيع الرجوع إلى البيت قبل أربع ساعات، استجابت لطلبه، وتمتمت شاهقة بحزن وأسى: لقد سرقني أخي. إنه لص. لم يعطني حصتي من المبلغ الذي أخذه منك البارحة كأجرة على تعليمي..
   هنا اتضح الأمر، فقد سبق أن طلب من ابنه أن يهتم بدراسة أخته ” هند ” مقابل أجر شهري محدد. وهي الآن تريد نصف هذا المبلغ كعمولة، وتعتبره حقاً لها..   
   حاول جاهداً إقناعها أن لا وجه حق لها بما تطلب.. لكن عبثاً، فقد أصرت على موقفها، وحاججته أنها كانت قادرة أن تقصي أخاها عن تعليمها بأن تقول أنها لا تفهم منه.. 
   استغرب كثيراً كيف يمكن لطفلة في العاشرة من عمرها أن تفكر هكذا. لكن دهشته لم تطل. إذ أنبأته بالسبب وهي تحاججه مجدداً، فقد شاهدت في مسلسل محلي، سائق سيارة أجرة يتقاضى عمولة من إدارة فندق، بعد أن أتى لها بسائح أجنبي.
   وهكذا، وبعملية استقراء بسيطة، اقتنعت هند أن لها حقاً بالعمولة من أخيها، كحق ذلك السائق بالعمولة من إدارة الفندق.
   هنا حاول، بكل ما أوتي من حجة وجدل، إقناعها بأن تقاضي العمولة على تلك الطريقة أمر شائن لا يليق بها ولا بأي امرئ آخر. ولم يتركها حتى هزت رأسها دلالة الاقتناع التام..
   في صبيحة اليوم التالي حدّث ابنته الكبرى عما عاناه في إقناع هند بخطئها. فأنبأته أنه واهم، وأن هنداً لم تقتنع البتة بكلامه.. وأنها أسرت لها قبل أن تخلد للنوم، بأنها واثقة أنه وأخاها قد اتفقا عليها، وأنهما تقاسما المبلغ مناصفة..
   يومذاك أقسمتُ بيني وبين نفسي ألا أكتب مشهداً درامياً، قبل أن أتأكد مسبقاً، وبما لا يقبل الشك، أنه لا يمكن أن يؤثر سلباً على منظومة القيم عند الأطفال وصغار السن..   
   هذه الحادثة جرت قبل بضع سنين، لكنني تذكرتها الآن بعد أن طلب ابن إحدى صديقاتي (وهو طفل في الثامنة من عمره) مني ومن زوجي أن نتجاوز إشارة المرور الحمراء.. مؤكداً أن شرطة المرور لا تخالف أحداً في الآونة الأخيرة..
   ولما لم نذعن لطلبه نعتنا بضعف القلب، وأكد أنه لو كان مكاننا لما ترك إشارة حمراء في شوارع المدينة دون أن يخترقها.. وأن تلك التجاوزات خليقة أن تـُكسب المرء لذة ما بعدها لذة، وتزيد من قوة شخصيته..
   أصابني كلام هذا الطفل بالذعر الشديد.. وتخيلت حجم الكارثة التي سنواجهها مستقبلاً حين يكبر هذا الجيل من الأطفال، وقد انقلبت القِيَمُ في عقله ووجدانه، فأضحى اختراقُ القانونِ شجاعة ً، وعدمُ احترام المؤسسات شطارة ً ورجولة وقوة في الشخصية..  
   إن مشهداً عابراً في مسلسل محلي أورث طفلة صغيرة خللاً هائلاً في منظومة القِيم لديها.. فما الذي يمكن أن تفعله مئات المشاهد المماثلة في الواقع وعلى الشاشات بمختلف أنواعها ؟
   لا شك أن الخطر شديد، وأن مواجهته أمر بالغ الأهمية والضرورة. إذ ينبغي علينا جميعاً أن نغرس في عقول أطفالنا وضمائرهم أن احترام القانون والمؤسسات واجب وضرورة. وأن من يخلّ بذلك هو بحكم الخائن المتآمر على وطنه ومستقبل أمته.. مهما كان الشعار الذي يرفعه، أو الذريعة التي يتذرع بها..
   والأهم من ذلك أن تكون أعمالنا مرآة أقوالنا.. فما فائدة نهي فلذات أكبادنا عن أمر، ونحن نفعل مثله ؟! 
   عندما حدثت صديقتي ( والدة الطفل الذي نصحنا بتجاوز الإشارة الضوئية ) بما كان بيننا وبين ابنها، ضحكت ملء شدقيها، وقالت بزهو: ” ماذا أفعل ؟ ابني ذكي جداً. عقله يلتقط ببراعة كل ما يجري حوله. إنني أدعو الله دائماً ألا يُتعبني حين يكبر “..
   وإذ ذاك أجبتها بمنتهى اليقين: ” بل سيُتعبك كثيراً، إن لم تهتمي بعقله عاجلاً غير آجل. وتـُصلحي ما أفسدت الظروف من مبادئه وقـِيَمه، فإن لم تفعلي ذلك فوراً كنتِ كمَنْ بين زرعه وبين النهر كفٌ من تراب، تكاسل أن يرفعه بيده، ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء “..

قد يعجبك ايضا