صباح بشير
رحلة في أعماق الذّاكرة والوجدان
رواية “منزل الذّكريات” للأديب محمود شقير، الصّادرة عن دار “نوفل هاشيت أنطوان” في بيروت، تتكوّن من مئة وسبعة وسبعين صفحة، وثلاث وستّين لوحة سرديّة، يستلهمها أديبنا من روايتي “الجميلات النّائمات” للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا و”ذكريات عن عاهراتي الحزينات” لماركيز، محاولا استكشاف أبعاد تجربة الشّيخوخة الإنسانيّة، متناولا أسرار الرّغبات وقوّة الذّاكرة في مواجهة الفقدان، ومن خلال مقارنة عميقة، يكشف عن أوجه الشّبه والاختلاف في تجربة الشّيخوخة عبر الثّقافات، ويفتح للقارئ نافذة على الأدب العالميّ، ويدفعه للغوص في أعماق الرّوايتين المذكورتين؛ ليسافر عبر الزّمان والمكان، بحثا عن أصداء مشتركة بين هذه الرّوايات الثّلاث.
حيكت هذه الرّواية من وحي الواقع الفلسطينيّ، بخيوط تناص ذكيّ محكم، فيه حوار مع عملاقي الأدب كاواباتا وماركيز، حول الشّيخوخة ومعانيها، يتأمّلون في زوال الشّباب ويبحثون عن معنى الحياة بعد ذبولها، فتلقي أنّات الشّيخوخة ببطل الرّواية، مع أنّات بطليّ كاواباتا وماركيز، وكأنّما يتمّ البحث عن إجابة لسؤال أزليّ، ما معنى الشّيخوخة في حياة الإنسان؟
في عالم كواباتا الإبداعيّ، يدخلنا الكاتب إلى أعماق نفس “إيغوشي” العجوز، الّذي يحاول استعادة شبابه الضّائع في عالم الأحلام، تعود إليه ذكرى النّساء اللّواتي مررن بحياته، لكنّ القدر يخبّئ له مفاجأة مؤلمة، إذ تفارق فتاته الحياة وتتركه غارقا في تأثّره.
أَمّا عجوز ماركيز، ففي غياهب العمر ووحدة العزلة، يقرّر الاحتفال بعيد ميلاده بطريقة غريبة، يبحث عن فتاة عذراء تعيد إليه شبابه، فيجد فاتنة تبيع نفسها لتنفق على أسرتها المعدمة، وحين تقف أمامه بكلّ براءتها وجمالها، يتذكّر كلّ امرأة أحبّها، فيدرك قيمة الأنثى ويسمو عن أهواء الغريزة.
هذان العجوزان هما طيفان يحضران من كتابين، ويخلقان فانتازيا تطغى على الواقع وتحيله طيفا خياليّا، وفي غياهب الوحدة، يذوي بطل الرّواية “محمّد الأصغر”، وهو كاتب عجوز ومحرّر للصّحف، في السّابعة والثّمانين من عمره، يمثّل انعكاسا للعجوزين المذكورين، لكنّه يحمل في طيّاته خصوصيّة التّجربة العربيّة، في توليفة فنّيّة ثريّة بالرّمزيّة والمعاني.
تتوفّى رفيقة دربه سناء وتترك له شبح فقدانها المرير، وفي كلّ صباح، يصنع فنجانين من القهوة، أحدهما له والآخر لها، ومع كلّ رشفة يتخيّلها أمامه، وكأنّها لم تغادره قطّ، يتحدّث إليها ويسمع صوتها، وتكون حاضرة في صحوه ومنامه.
تمحورت شخصيّة محمّد حول الهرب إلى عالم الذّكريات، فكان بيته مرآة لحالته النّفسيّة، وبوصفه راويا قدّم لنا نظرة عميقه لعالمه الدّاخليّ، وعلاقته بالماضي والحاضر وخوفه من المستقبل، وفي ليلة ما وبعد لقائه بأسمهان، جامعة التبرّعات، انغمس في حلم عميق تمادى فيه معها؛ ليتبيّن له لاحقا أنّ أحلامه لم تعد ملاذا آمنا، بل أصبحت مكشوفه أمام أعين المتطفّلين، حيث تفكّ أسمهان مع أخيها “جميحان” شفره هذه الأحلام، وينتهي الأمر بإجبار محمّد على الزّواج منها؛ فتتحوّل حياته إلى جحيم بسبب تسلّط جميحان وأتباعه الزّعران عليه، فيلجأ إلى صديقيّه العجوزين في سهرة متخيّلة، يبوح لهما بمعاناته.
كان يحدّث نفسه قائلا (ص10): هل أحلم؟ هل أهلوس؟ أم هو عالمي الّذي أدمنته مع الكتب وأبطال الرّوايات؟
في هذا النّص الرّوائيّ، يلتقي عبق الشّرق والغرب في لوحة جميلة، تتداخل فيها شخصيّات كواباتا وماركيز، مع أبطال شقير (محمّد الأصغر، القنفذ ورهوان وقيس، فريال وسميره وأسمهان، ثمّ جميحان) وتتشابك مع رموز أدبيّة وتاريخيّة؛ لتعطي للنّصّ عمقا تاريخيّا وثقافيّا، كأحمد شوقي، خليل السّكاكيني، الحجّاج بن يوسف، عليّ بن أبي طالب، وأبي ذرّ الغفّاريّ، ويضيف كتاب أخبار النّساء لابن القيّم الجوزيّة، وشعر الأصمعيّ وعلقمة، لمسة من الرّقة والجمال على هذا النّصّ الإبداعيّ.
كما يرد ذكر الرّئيس الأمريكيّ “جو بايدن” (ص104)، وتبرز مقولة عمر بن الخطاب (ص86) كصدى لواقعنا المعاصر، حيث يتردّد سؤال الهويّة والحرّيّة: متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا؟
المكان.. خريطة نفسيّة لشخوص العمل:
تتعدّد الأماكن في النّص منها المغلق؛ كالبيت الّذي يمثّل الملاذ الآمن لمحمّد، فيعكس حياته الخاصّة وعلاقاته بزوجتيه، وهو المكان الّذي اجتمع فيه بأصدقائه المتخيّلين. كان مكانا للذّكريات والأحلام، وللحزن والوحدة أيضا، أمّا نزل فريال، فجسّد الجانب المظلم والمغري من الحياة.
كما رسم النّصّ صورة حيّة عن مدينة القدس الّتي تحتضن الأحداث؛ فتتجلّى فيها مأساة شعبنا وصورة الإنسان المتأمّل في مصير حياته، الباحث عن بصيص من الحبّ والدّفء في عالم مضنٍ.
يصف مدارس القدس العريقة، مقاهيها ومطاعمها وأسواقها النّابضة بالحياة، يصوّر لنا كيف تحافظ على هويّتها الأصيلة رغم كلّ شيء. وعن الوطن بوصفه مكانا مفتوحا، فقد حمل دلالات عميقة، فهو هويّة وجذور ورمز للانتماء والأصالة، وبالتّالي فهو فضاء ثقافيّ واجتماعيّ وتاريخيّ ونفسيّ، تجسَّد كعنصر أساسيّ في تشكيل وعيّ الشّخوص وتحديد مسارها.
يشير الكاتب أيضا، إلى غياب القانون، حيث يصبح الفرد رهينه للفوضى والعنف، وتسلّط المجرمين يقول (ص60): “ألجأ إلى العائلة لحمايتي من الأشرار في غياب القانون، وهو الغائب الأكبر في زمن الاحتلال”.
كما تظهر اليابان وكولومبيا في النّصّ، وهما تمثّلان عالما بعيدا عن الواقع الفلسطينيّ، وفي حوار متخيّل تتجلّى فيه تباينات المعاناة الإنسانيّة المختلفة، يواجه محمّد صديقيّه العجوزين قائلا (ص116): “ننشغل هنا في فلسطين بتقديم التّضحيات، وفي توديع الشّهداء، إلّا أنّ العجوزين ساهيان لاهيان، لا يؤرّقهما أيّ همّ أو غمّ ممّا نقاسيه نحن”.
يردّ العجوز اليابانيّ منتفضا (ص117): “مازلنا نعاني من إشعاعات القنبلة الذّريّة الّتي أسقطت على هيروشيما”. ويقول عجوز ماركيز: “نحن في كولومبيا عانينا من أنظمه الاستبداد، ومن تجّار المخدّرات”.
الأبعاد الزّمنيّة في الرّواية:
لا يقتصر دور الزّمن في هذه الرّواية على كونه إطارا زمنيّا محدّدا، بل يتجاوز ذلك إلى مستوى أعمق، فهو رمز عميق يعكس حالة البطل النّفسيّة والمجتمعيّة المتردّية، كما أنّ تداخل الماضي والحاضر في وعيّ البطل، يعكس حالة الحنين إلى الماضي ورغبة في الهروب من الحاضر المؤلم.
يستخدم الكاتب الزّمن كسلاح للسّخرية من الأوضاع الحاليّة، حيث يصور الزّمن كوحش يبتلع كلّ شيء جميل، لكنّه في الوقت نفسه يترك بصيصا من الأمل في المستقبل.
يدور الحدث في الزّمن الحاضر ممّا يمنح القارئ انطباعا أنّ الأحداث تجري الآن. هذا الاختيار الزّمنيّ ليس اعتباطيّا، بل هو عنصر أساسيّ في البناء الرّوائيّ، يعكس اهتمام الكاتب بقضايا الوطن الملحّة، ويقدّم لنا صورة معاصره للحياة، فهو يتناول تحدّيات المجتمع الرّاهنة بواقعيّة ملحوظه، ممّا يخلق التّشويق والإثارة، ويقرّب القارئ من شخصيات العمل والأحداث.
تمّ توظيف الزّمن كأداة فنّيّة مؤثّرة، تعمّق رؤيتنا للواقع، من خلاله يتجسّد إحساس محمّد بالعجز واليأس، كما في قوله (ص11): “أعيش حربي الخاصّة مع الزّمن”.
يوجّه انتقادات لاذعة للزّمن الّذي نعيشه، مستنكرا الانحطاط الأخلاقيّ، معربا عن استيائه من واقع يعجّ بالفساد، يقول (ص58): “الزّمن الّذي ابتلينا فيه بطفيليّين زعران، وتجّار مخدّرات وعملاء، يحملون السّلاح يهدّدون به أبناء جلدتهم من المواطنين العزّل”.
يصف الزّمن على امتداد النّصّ بأوصاف مختلفة، فمثلا يقول (ص62): “هذا زمن السّفلة والأوباش”، ويقول (ص97): “هذا الزّمن الغشوم”، وفي (ص162) “هذا الزّمن الخوّان” وفي (ص116) “زمن ضمور القدرة على تنفيذ الرّغبات”.
في أعماق اللّاوعيّ، الأحلام بوّابة إلى عالم آخر:
لجأ الكاتب إلى الحوار الدّاخليّ بشكل مكثّف؛ ليعبّر عن صراع محمّد مع ذكرياته وأحلامه ومخاوفه، ينسج النّصّ من خيوط الأحلام والكوابيس الّتي تعكس مكنونات نفس البطل المأزومة بفقد زوجته، وبعض الجوانب الخفيّة من شخصيّته ونفسيّته، وفي كلّ حلم أو كابوس، نستشعر نبضا خافقا يترجم آلامه من الفراق والفقد، نتجوّل في متاهات ذهنه، ونشهد صراعاته الدّاخليّة العميقة، ونستكشف دوافعه وخفاياه.
من خلال عالم الأحلام واللّاوعي، يسافر القارئ إلى عالم موازٍ، ينبض بالأسرار والمفاجآت، ويتمّ التّعبير عن الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ، وعن قضايا فلسفيّة ووجوديّة، أمّا أحلام اليقظة فجسّدت انعكاسا لرغبات محمّد وأمانيه؛ لتؤكّد على التّناقض الصّارخ بين عالمه الواقعيّ والمتخيّل، وتكشف عن تقلّبات مشاعره بينهما، في ظلّ تمسكّه ببصيص الأمل في بستان ذاكرته.
يكتب (ص11): “قرّرت مواصلة العيش، وليس معي من عدّة أو عتاد سوى الذّاكرة، أتّكئ عليها واستخرج منها بين الحين والآخر ما يساعدني على تجرّع الآلام، والنّظر إلى المستقبل بتفاؤل”.