حُباً بالسوريين.. وأملاً بسوريا

هوشيار زيباري*

في ذاتي وذاكرتي ثمة موقع خاص لسوريا والسوريين، الذين عايشتهم وعملت معهم طوال عقود، كانوا خلالها الأناس الأكثر قرباً وألفة بالنسبة لي، لأسباب كثيرة، على رأسها انحداري من مدينة الموصل، شديدة الوئام والتداخل والشبه بالفضاء الاجتماعي والثقافي والرمزي السوري، ومثلها معرفتي ومتابعتي الدائمة للشأن السوري منذ انخراطي الأول في عالم السياسة.

فسوريا حقيقة دولة مفصلية في التركيبة السياسية الإقليمية لمنطقتنا، والمسألة الكوردية داخلها كانت بالنسبة لنا محل انشغال ومناصرة دائمة، وبسببهم كُنا نشعر دوماً أن سوريا وما يجري داخلها جزء عضوي من حياتنا السياسية وحتى اليومية.

لعقود كثيرة، كُنا ككورد عراقيين ضحايا النظام البعثي الذي حكم سوريا لقرابة ثلاثة أرباع قرن، فهذا النظام بدأ رحلته الشمولية عام 1963 بمشاركة النظام العراقي عسكرياً في مناهضة حركتنا التحررية وقتئذ، وأرسل فرقاً عسكرية بقيادة الضابط المتطرف “فهد الشاعر”، قصفت قرانا وبلداتنا بوحشية حينها، بعدما فشلت في القضاء على قوات البيشمركة، وذاقت هزيمة نكراء.

في أواسط السبعينات توافق النظام البعثي في سوريا مع نظيره العراقي على محو ثورتنا التي كانت في منعطف حرج، بسبب اتفاقية الجزائر. وطوال عقدي الثمانينات والتسعينات لعب ذلك النظام بورقة تناقضات وخلافات الأحزاب الكوردية، وبعد العام 2003 وتحرر العراق من نظام صدام حسين، كان النظام السوري وحيداً في رفضه الاعتراف بالهوية الديمقراطية للعراق الجديد، وقد عانيت طوال سنوات كثيرة كوزير لخارجية العراق من ذلك التعنت السوري، ولاحظت كقيادي كوردي كيف أن الوضع الفيدرالي الذي تمتع به إقليم كوردستان في العراق الجديد كان بالنسبة للنظام السوري محل رفض مطلق.

اليوم، وبعد سقوط ذلك النظام الذي بقي جاثماً على صدور السوريين بوحشية وعزلة عن العالم الخارجي، أبدوا أكثر المبتهجين بما حصل، وأكثر الداعين علانية لأن يكون التعاطي العراقي مع الواقع السوري الجديد أكثر إيجابية، في مناخ عراقي يسوده القلق والتشكيك والتحذير من التحول في سوريا.

صحيح ثمة فرق جوهري بين نوعي التغيير في كِلا البلدين، إذ كان في العراق تغييراً بفضل قوة خارجية، بينما كان في سوريا تغييراً داخلياً؛ لكن ذلك لا ينفي حتمية تطابق آليات الانتقال السياسي من نظام شمولي إلى آخر تعددي ديمقراطي، لأن التحول في المحصلة يجري في بنية مؤسسات الحُكم والإدارة والاقتصاد والعلاقات الدولية.

ليس لي، ولا أي شخص أو جهة أو مؤسسة أخرى، أن تكون وصية على السوريين وخياراتهم وآليات تنظيمهم لمستقبل بلادهم؛ لكن علاقتي الوجدانية الحميمية مع سوريا، وأملي المخلص بتحقيق السوريين لمرادهم الأعلى في تأسيس دولة ديمقراطية مدنية، وكشخص راكم خبرة مستدامة، اكتسبها خلال عمله في أعلى سلم المسؤولية كوزير لخارجية العراق، أثناء تحول النظام الحاكم لبلده من نظام شمولي إلى دولة تعددية مدنية، وكانت ظروفه العامة، خصوصاً في الوضع الداخلي، شبه مطابقة لما في سوريا راهناً، مع بعض الفروق التفصيلية، أراني مجبراً بحكم الواجب الأخلاقي أن أسطر بعض ما أعتبره أسساً جوهرية لأي انتقال سياسي سليم وآمن، حرصاً وحباً ورغبة في رؤية سوريا معافاة في أقرب وقت ممكن.

فآلية كسب الشرعية الداخلية من قِبل النظام الجديد يجب أن تعتمد على القوى السياسية اولاً، لا الفصائل المسلحة أو الجماعات العسكرية. فهذه الأخيرة، وإن كان لها دور أساسي في إسقاط النظام السابق، ودور راهن في استتباب الأمن، لكنها ليست حمالاً سياسياً، بمعنى أنها لا توفر شرعية تمثيل مختلف الشرائح الاجتماعية والطبقية والمناطقية والحساسيات الأهلية السورية، وتالياً تدفع الكثير من السوريين للشعور بالعزلة وعدم الحضور والتمثيل في نظامهم السياسي الحالي.

في العراق، ومنذ لحظة سقوط النظام السابق عام 2003، رفضنا مطلقاً أن تكون الشرعية للسلطة العسكرية، سواء الأجنبية أو المحلية، فالعراق أيضاً كان به قوى مسلحة مثل البيشمركة و”فيلق بدر” وغيرهم. بل عملنا على أن تنادي التنظيمات السياسية المعارضة الرئيسية في البلاد، تعاضدها فيما بينها، وإصرارها على تحمل مسؤولية الانتقال السياسي في البلاد، عبر تشكيل أجسام سياسية مدنية، مثل “مجلس الحكم الانتقالي”، ومفاوضاتها لكل التنظيمات السياسية والحساسيات الأهلية الأخرى في البلاد، بغية خلق أكبر مروحة للشراكة السياسية لتقود عملية التغيير.

المسألة الأخرى تتعلق بما يُمكن تسميته بـ”الشرعية العربية”. فالدول العربية بالنسبة لسوريا، ممثلين بمؤسستهم السياسية الأعلى “جامعة الدول العربية”، ليسوا مجرد هيئة شكلية أو منظمة فلكلورية، بل مصدراً أولياً ودائماً لشرعية النظام السياسي في هذا البلد، بل ورعايته وحمايته من النزوع الإقليمي وحتى الدولي للسيطرة عليه.

فالعضوية والمشاركة الحيوية في مؤسسة جامعة الدول العربية ليس مجرد فعل بيروقراطي، بل إقرار سياسي بهوية هذا البلد ومساره العام. في العراق مثلاً، وبعد أيام قليلة من تولّي منصب وزير الخارجية، عقِب اسقاط النظام السابق، أصريت على المشاركة في اجتماعات الجامعة العربية، وكسب مقعد العراق فيها، وعرض رؤية العراق الجديد ضمنها، والشراكة معها في كل تفصيل عراقي فيما بعد. لأن ذلك الفعل بالنسبة لنا كان يعني أن العراق الجديد لن يكون لقمة سائغة لأية قوة إقليمية تحاول الهيمنة عليه، وأن العراق الجديد ليس كياناً انقلابياً على أحوال وتوازنات المنطقة، بل جزء منها، ومن موقع شديد الإيجابية. وأعتقد أن الكثير من ذلك ينطبق على سوريا راهناً.

على نفس المنوال، بذلنا جهوداً جبارة في مؤسسة الأمم المتحدة. فالعقيدة السياسية بالنسبة لي، وطوال سنوات لشغلي منصب وزير الخارجية، كانت قائمة على الاعتقاد بأن تغيير الهوية السياسية للنظام الحاكم للعراق لن يتحقق دون اعتراف الأمم المتحدة وثقتها بنخبة ومؤسسات الحكم الجديدة في العراق. فالمنظمة الدولية غير أنها كانت مصدراً للشرعية العالمية، كانت الأداة الوحيدة لرفع ترسانة العقوبات الدولية عن الشعب العراقي، ومصدراً لتدفق مساعدات ومساهمات المنظمات الدولية على العراق، وآلة ضخمة لمساعدة النظام الجديد على الاندماج في الكل العالمي. بهذا المعنى، ثمة مسار طويل ينتظر السوريين لتحقيق ذلك، وعليهم أن يبدأوا بالأمر اليوم، وليس غداً.

تشييد الروابط مع الجامعة العربية والأمم المتحدة وغيرها من المنظمات العالمية لم يكن بالنسبة لنا مجرد حملة للعلاقات العامة أو محاولة لنيل الشرعية الخارجية، بل عتبة لجذب كل هذه المنظمات إلى داخل العراق، بالذات إلى نواة سلطة الحُكم، عبر إشراكهم في كل تفصيل ومبادرة داخلية، من مفاوضة القوى السياسية الداخلية المعترضة على العملية السياسية مروراً بآلية هندسة الحكومة الجديدة وليس انتهاء بكتابة الدستور وإقراره، ومثله كل القوانين الجديدة الناظمة للبلاد، وذلك لسببين متراكبين: لتمتين شرعية الحُكم الداخلي، عبر تغطيته بشرعية وشراكة إقليمية ودولية واضحة المعالم. والاستفادة من جيوش الخبراء القانونيين والسياسيين والاقتصاديين العاملين في هذه المنظمات، وإدخالهم في خدمة الواقع الجديد الذي صار يرتسم في العراق.

لا أعتقد أن المؤسسات الدولية والعربية تمانع فعل الأمر نفسه مع السوريين، شريطة أن يترك الحكام الجدد لسوريا تلك العقيدة “البعثية” التقليدية، التي تملك ذهاناً متوهماً من أي شيء أجنبي/خارجي، ترى فيه مؤامرة وسعياً محموماً للهيمنة على الداخل السوري.

في ذات السياق، ليس مفهوماً بالنسبة لي لماذا تضع السلطة السورية الجديدة مدداً زمنية بعيدة للغاية “أربع أو خمس سنوات لإجراء الانتخابات.. الخ”. ففي تجربتنا العراقية، ورغم الضغوط الأمنية الهائلة، إذ كانت عشرات التفجيرات الإرهابية تضرب مختلف مُدن العراق بشكل يومي، والتعقيدات القانونية واللوجستية المتأتية من حالة الاحتلال؛ إلا أننا تمكنا من تحقيق حكومة مؤقتة وبرلمان انتقالي ودستور دائم وبرلمان منتخب وحكومة منبثقة عن ذلك البرلمان في قرابة عامين فحسب.

هذا “الترف الزمني” الذي تحاول السلطة السورية الجديدة تكريسه، يزيد من سوء الثقة بشرعيتها، وطبعاً شكوكاً بمصداقيتها في الانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي. هذا غير تأثيرات ذلك على الحياة العامة والاقتصادية الداخلية، فالتعافي الداخلي مرتبط حتماً بحيوية وسرعة التحول إلى نظام تعددي ذو شرعية تامة، متأتية من آليات الانتخاب والتمثيل الديمقراطية.

أخيراً، ليس للأحبة السوريين أن يحققوا شيئاً سريعاً وناجزاً، يليق بتضحيات الشعب السوري، قبل أن يكونوا واضحين في تحديد هوية النظام السياسي الذي ينوون تشكيله وتحقيقه.

فالسوريون الذين خرجوا في ثورة عارمة ضد نظام شمولي واستبدادي مبني على إيديولوجية بعثية نافية للآخرين، جديرون بأن يُلعن الحُكام الجدد لبلادهم إن ما يتطلعون إليه هو النظام الديمقراطي المدني اللامركزي المُعترف بكل الحساسيات الداخلية. فهذا الأمر وحده سيزيل الكثير من الشكوك بالقائمين على الحياة السياسية السورية راهناً، وسيدفع فئات المجتمع السوري للثقة الداخلية ببعضهم، وبالمستقبل أولاً.

*عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكوردستاني

قد يعجبك ايضا