اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي
يشهد البحث الأكاديمي حول الذكاء الاصطناعي اهتمامًا متزايدًا بضرورة تحقيق توازن بين الانفتاح العلمي والمسؤولية الأخلاقية، وهو نقاش يتجاوز الجوانب التقنية ليشمل أبعادًا معرفية واجتماعية ذات تأثير مباشر على بنية المجتمعات الحديثة. هذا التحدي دفع العديد من الدول إلى إعادة النظر في سياساتها المتعلقة بهذه التقنية، حيث ظهرت توجهات مختلفة تعكس تباينًا في الرؤية حول كيفية تنظيم الذكاء الاصطناعي والاستفادة منه بشكل مسؤول.
تبنّت فرنسا موقفًا يدعو إلى تعزيز الذكاء الاصطناعي المفتوح مع وضع ضوابط أخلاقية واضحة، وهو ما تجلّى في مبادرة باريس الأخيرة التي سعت إلى وضع إطار دولي يضمن تطوير هذه التقنية بما يخدم الصالح العام، مع تجنّب مخاطر الاستخدام غير المسؤول. هذا الطرح يعكس رؤية أكاديمية ترى في الذكاء الاصطناعي أداة يمكن تسخيرها لدعم البحث العلمي وتعزيز الابتكار، شريطة أن تكون هناك معايير واضحة تحكم آليات عمله وتضمن عدم انحرافه عن الأهداف الإنسانية.
لكن في المقابل، امتنعت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا عن التوقيع على هذه المبادرة، ما يفتح باب النقاش حول الدوافع الكامنة وراء هذا الموقف. فمن الناحية العلمية، تمتلك واشنطن ولندن مراكز بحثية وشركات تكنولوجية رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل OpenAI وDeepMind، ما يعني أن تبنّي نموذج أكثر انفتاحًا قد يثير مخاوف بشأن حماية التفوق التكنولوجي لهذه المؤسسات. ومن منظور أكاديمي، يشير هذا الرفض إلى رؤية ترى في الانفتاح المطلق مخاطر محتملة، سواء فيما يتعلق بأمن البيانات أو بإمكانية استغلال هذه التقنية من قبل جهات غير مسؤولة.
هذا التباين في المواقف يعكس تحديًا علميًا جوهريًا حول كيفية التعامل مع الذكاء الاصطناعي في بيئة بحثية معولمة. فبينما تدعو بعض الدول إلى مشاركة أوسع للمعرفة لضمان تطوير نماذج أكثر شمولية وإنصافًا، ترى أخرى أن هذا الانفتاح قد يؤدي إلى تسريب تقنيات متقدمة دون وجود آليات كافية لضبط استخدامها. هذه الإشكالية تطرح تساؤلًا جوهريًا حول مدى إمكانية تحقيق توازن بين الانفتاح العلمي وحماية المصالح المعرفية، وهي مسألة تتطلب رؤية أكاديمية قائمة على البحث في تأثيرات الذكاء الاصطناعي على نظم إنتاج المعرفة، وليس فقط على الجوانب التقنية المباشرة.
إن البحث في الذكاء الاصطناعي من منظور علمي متكامل يستلزم تجاوز الجدل حول الانفتاح والتقييد إلى تحليل أعمق لطبيعة هذه التقنية، وكيفية ضمان استخدامها بما يخدم تطور البحث العلمي دون أن تتحول إلى أداة لإعادة إنتاج أنماط السيطرة المعرفية. في هذا السياق، يصبح من الضروري تطوير نماذج بحثية تركز على آليات تفسير قرارات الذكاء الاصطناعي، وتعزز الشفافية ليس فقط على مستوى الأكواد البرمجية، بل أيضًا على مستوى الأطر المفاهيمية التي تشكّل أساس هذه التقنية.
إن المواقف المختلفة للدول الكبرى تجاه الذكاء الاصطناعي تعكس تباينًا في الرؤية حول مستقبل هذه التكنولوجيا، وهو تباين يستدعي من الباحثين الأكاديميين التركيز على تطوير استراتيجيات معرفية تعزز قدرة المجتمعات على التعامل معها بوعي ومسؤولية. فبدلًا من الانشغال بالتنافس على ملكية الذكاء الاصطناعي، ينبغي أن يكون التركيز على كيفية توظيفه في إنتاج معرفة أكثر عدالة، تضمن استفادة البشرية جمعاء من إمكاناته دون أن يكون أداة لتعميق الفجوات الاقتصادية والمعرفية.