مسؤولية الخطاب الإعلامي بتعزيز التعايش

 

 

نبراس المعموري

يُعَدّ الخطاب ممارسة اجتماعية تجمع بين القول والفعل، ويتحمّل الخطاب الإعلامي مسؤولية نقل هذه الممارسة إلى الجمهور عبر المؤسسات الإعلامية. ومع ذلك، فإنه غالبًا ما يكون منحازًا بشكل مباشر أو غير مباشر، وفقًا لانتماء وأيديولوجية المؤسسة الإعلامية التي تنقل تلك الممارسة الاجتماعية. لذلك، عند تقييم وتحليل مضمون أي خطاب إعلامي، و مدى دقته وقدرته  في نقل الوقائع ، لا بد من دراسة عمليات الاتصال والإعلام من حيث التكوين، والملكية، ونظم العمل، وطبيعة الجمهور، والنظام السياسي القائم، وما تنتجه هذه العوامل من خطابات من ادوار  محورية في تشكيل الرأي العام، وصناعة الصورة الذهنية، والتأثير على السياسات العامة بشأن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتصبح  هذه الأدوار  أكثر أهمية في المجتمعات المتعددة الأعراق والثقافات مثل العراق .

 

يعتمد حجم تأثير الخطاب الإعلامي بشأن قضايا التعايش على نوعية الخطاب الإعلامي المعتمد من قبل وسائل الإعلام. فقد يكون الخطاب الإعلامي إيجابيًا، يعزز الحوار والقيم المشتركة بين المجتمعات المتنوعة، أو قد يكون سلبيًا، يستخدم مفردات تحريضية ويركز على الخلافات السياسية والأخبار الزائفة، مما يؤدي إلى تعميق الانقسامات العرقية والقومية.

 

وبين الخطابين الإيجابي والسلبي، يوجد الخطاب الإعلامي الحيادي أو الموضوعي، الذي ينقل الأحداث بمهنية دون تحيز لطرف على حساب الآخر، ويقدم تحليلات متوازنة تسلط الضوء على المشكلات والحلول الممكنة.

 

مجتمعات متنوعة

لكن غالبًا ما يصطدم وجود خطاب إعلامي حيادي يعزز التعايش والحوار والسلم الاهلي بين المجتمعات المتنوعة بتحديات عدة، منها: التسييس الإعلامي وعدم المهنية، حيث تخضع وسائل الإعلام لتأثير جهات سياسية وأحزاب ورؤوس أموال كبرى، مما يؤدي إلى تبني خطابات منحازة تُعمّق الخلافات بدلًا من حلها. و ضعف المبادرات الإعلامية الداعمة للتعايش، حيث تظل الجهود الإعلامية التي تروج للوحدة والسلام محدودة مقارنة بتلك التي تركز على الخلافات.

 

نماذج ناجحة

تجاوزت العديد من الدول أزمات كبرى هددت السلم الأهلي والتعايش من خلال تبني خطاب إعلامي إيجابي، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما حصل في رواندا بعد الإبادة الجماعية (1994) ، والتي تعد واحدة من أبشع الإبادات الجماعية في القرن العشرين، حيث قُتل حوالي 800,000 شخص خلال 100 يوم نتيجة الصراعات العرقية بين قبيلتي الهوتو والتوتسي. ومع ذلك، نجحت البلاد في إعادة بناء نسيجها الاجتماعي عبر حظر وسائل الإعلام التي روجت للكراهية أثناء الإبادة الجماعية، والتركيز على الوحدة الوطنية والعدالة الانتقالية من خلال الإعلام. وقد كان الإعلام أداةً مهمة لتعريف الشعب بمبادرات العدالة، مثل محاكم “الغاكاكا” التقليدية، مما عزز القبول المجتمعي بقراراتها.

 

وكذلك ما حصل في جنوب إفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري (1994) ، حيث استخدمت وسائل الإعلام لتعزيز رسائل المصالحة الوطنية التي قادها الرئيس نيلسون مانديلا، مع التركيز على القيم الإنسانية المشتركة والتسامح، إضافةً إلى تسليط الضوء على العدالة الانتقالية وتعزيز الهوية الوطنية. كما لعب الإعلام دورًا رئيسيًا في سرد قصص النجاح المشتركة بين المجموعات العرقية، مما ساهم في ترسيخ مفهوم “أمة قوس قزح”.

 

في كلا المثالين، نجحت الدول في استخدام الإعلام كأداة فعّالة في نشر خطاب التسامح، ودعم عمليات المصالحة، مما ساهم في تجاوز الأزمات المهددة للتعايش والسلم المجتمعي .

 

 

 

الخطاب الإعلامي في العراق

على الرغم من الانتشار الواسع لوسائل الإعلام وتعددها في العراق بعد 2003 إلا أن غياب الإعلام المستقل امام الإعلام الحزبي المسيس أدى إلى  انتشار الخطاب الإعلامي السلبي في العراق بعد 2003 العديد من الآثار السلبية على المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية، ومنها ، تصعيد العنف الطائفي والسياسي وتعزيز الانقسامات داخل المجتمع العراقي، وتأجيج التطرف والإرهاب حيث استغلت الجماعات المتطرفة هذا النوع من الخطاب لتجنيد الشباب وإثارة مشاعر الغضب، ما ساهم في انتشار العنف والإرهاب في البلاد. إضافة إلى إضعاف ثقة المواطنين بالإعلام بسبب انتشار الأخبار المضللة والتحريض، والتأثير على الاستقرار السياسي والاقتصادي  وبالرغم من ان الحكومة العراقية اتخذت عدة إجراءات للحد من خطاب الكراهية في البلاد، من خلال تشكيل لجنة عليا لإعداد استراتيجية وطنية  للحد من خطاب الكراهية. وكذلك إعداد مشروع قانون لمكافحة خطاب الكراهية واصدار السلطة القضائية مجموعة من الإجراءات ضد المحرضين وتنظيم العدد من الورش والندوات من قبل منظمات المجتمع المدني والهيئات الأممية بشأن دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في مكافحة خطاب الكراهية وتعزيز التسامح.

 

و على الرغم من كل هذه الجهود للحكومة العراقية للحد من الخطاب  الإعلامي العنيف ، إلا أن هذه الإجراءات لم تحقق نجاحًا ملموسًا لعدة لأسباب  تتعلق بضعف تنفيذ القوانين والتشريعات واحيانا الانتقائية والتسييس في تنفيذها  خاصة مع عدم وجود آليات واضحة لمحاسبة المخالفين و غياب استراتيجية إعلامية متكاملة تعمل من منظور وطني خالص  بسبب الانقسامات السياسية العميقة بين الأحزاب والمكونات العراقية التي تُذكي خطاب الكراهية، وضعف الدولة أمام الجماعات المسلحة الذي أدى الى عدم اتخاذ إجراءات صارمة ضد الجهات التي تروج للكراهية. إضافة الى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي والتي أصبحت المنصة الأساسية لنشر خطاب الكراهية، بشكل كبير بسبب ضعف التنسيق مع شركات التكنولوجيا العالمية للحد من المحتوى المتطرف داخل العراق.

 

 

الحلول الممكنة

  1. تعزيز الصحافة المسؤولة من خلال إبعاد تأثير الأحزاب والانقسامات السياسية و الالتزام بأخلاقيات المهنة و تقديم مادة إعلامية متوازنة ودقيقة، بعيدًا عن التحريض أو التشويه، مما يعزز ثقة الجمهور بها.

 

  1. إطلاق برامج حوارية مشتركة تجمع شخصيات من مختلف المكونات لمناقشة القضايا المشتركة، وتعزيز التواصل بين المكونات ، والتركيز على الحلول بدلًا من تعميق الخلافات.

 

  1. مكافحة الأخبار المضللة من خلال قوانين واجراءات لمكافحتها. والتحقق من صحة المعلومات قبل نشرها، وتوعية الجمهور بمخاطر الإعلام التضليلي وتأثيره السلبي على وحدة المجتمع.

 

  1. إنتاج محتوى إعلامي يعزز التفاهم بين المجتمعات المتنوعة، مثل الأفلام الوثائقية، والمسلسلات، والمقالات الثقافية، التي تسلط الضوء على القيم المشتركة.

 

  1. تطوير الإعلام الجديد حيث يوفر الإعلام الرقمي فرصة كبيرة للوصول إلى شرائح أوسع، واستثماره لتعزيز التعايش السلمي، خاصة في ظل محدودية تأثير الإعلام التقليدي على الأجيال الجديدة.

 

  1. تحديد طبيعة الخطاب الإعلامي فلابد أن يكون الإعلامي وكذلك السياسي مؤسسات وأفراد على وعي كافي  بطبيعة الخطاب الذي يقدم، والرسالة التي يسعى لإيصالها، وتوقيتها، والجمهور المستهدف، إضافةً إلى اختيار البرامج والوسائل القادرة على نقل الرسالة بأسلوب واضح بعيدًا عن التعقيد.

 

7 .إطلاق حملات توعية وطنية لتعزيز ثقافة التعايش بين مختلف مكونات المجتمع. وإشراك المؤسسات الدينية والتعليمية في نشر خطاب الاعتدال والتسامح.

 

8.تعزيز التعاون الدولي مع شركات التكنولوجيا والمؤسسات الأممية لمكافحة خطاب الكراهية على الإنترنت.

 

قد يعجبك ايضا