بشارة الخوري بمقام عراقي

 

 

كرم نعمة

سَلْ أيا كان، بمن فيهم نقادنا الموسيقيون ومؤرخو الفن العربي، عن قصائد بشارة الخوري المغناة؟ ستأتيك الإجابة جاهزة مكررة وكأنها درس على التلاميذ الصغار حفظه وتكرار ترديده عن ظهر قلب!

 

هكذا يجيبون جميعهم لحّن له محمد عبدالوهاب “الهوى والشباب” و”جفنه علّم الغزل” ثم “يا جمال الورد” التي غنتها أسمهان، ويسترسلون في تكرار المكرر بأن فريد الأطرش لحن له وغنى “أضنيتني بالهجر” ثم “عش أنت، إني مت بعدك”، وعندما يكون المجيب أقل إجحافا في مدونة التاريخ الموسيقي يعود إلى الرحابنة وفيروز على اعتبار لبنانية بشارة الخوري، فيضيفون إلى القائمة الجاهزة “يا عاقد الحاجبين” ثم “قد أتاك يعتذر/ لا تسله ما الخبر” و”يبكي ويضحك لا حزنا ولا فرحا.”

 

وماذا غير ذلك “أيها السادة”، وكأن الفن العربي برمته توقف هناك؟

مَن بين كل هؤلاء الذين يتبرعون لنا بزهو الإجابة كحقيقة نهائية وفتح تاريخي عن قصائد بشارة الخوري الملحنة، قد ذكر لنا قصيدته “نم إن قلبي فوقَ مَهْدِكَ، كُلَّمَا ذُكِر الهوى صلَّى عليكَ وسلَّما” بصوت ناظم الغزالي!

 

أكاد أجزم لا أحد! لماذا؟ لأن السقوط في فخ سطوة ثقافة المركز وتهميش الأطراف بقي سائدا على مدار عقود، وأن كل من يريد أن يؤرخ لتاريخ الموسيقى العربية اليوم لا يحاول الخروج من سطوتها.

 

وهنا، ليس بوسعي القول إن تساؤلي يقلل من قيمة تلك الألحان التي شكلت مساحة مهمة في تاريخ الذائقة السمعية العربية، وإن عبدالوهاب والأطرش والرحابنة برعوا في استخلاص قيمة نغمية من تلك القصائد، بل إن عبدالوهاب نفسه اعترف بأنه لا يلحن قصائد بشارة الخوري، لأنها مترعة بالموسيقى أصلا وكانت تأتيه ملحنة وكل ما يقوم به هو اختيار الجملة الموسيقية المناسبة لها.

 

ولأن كل ما دوّنَ من التاريخ الفني العربي هو إجحاف يخضع قسرا لثقافة المركز وإهمال الأطراف التي كانت سائدة آنذاك، وكأن الموسيقى لم تكن موجودة في تونس والمغرب واليمن والعراق… أقترح عليكم العودة اليوم إلى أداء الغزالي لقصيدة الأخطل الصغير تلك، ومثلها قصيدة إلياس أبو شبكة “ما لي أَرى القَلبَ في عَينَيكِ يَلتَهِبُ/ أَلَيسَ لِلنّارِ يا أُختَ الشَقا سَبَبُ” التي برع الفنان سعدون جابر في إعادة أدائها بمسلسل ناظم الغزالي.

 

أختار الغزالي في نوع من الاختبار لأدائه مقام “الدشت” بوصفه الأصعب من بين المقامات العراقية لأداء قصيدة “نم إن قلبي فوقَ مَهْدِكَ.” ولست على يقين هنا إن كان خياره شخصيا أم عمل بنصيحة ملحنه المفضل ناظم نعيم أو الموسيقار محمد القبانجي اللذين ساهما في صناعة ناظم الغزالي الذي نعرفه.

 

هذا المقام العراقي يدخل الأصوات في اختبار قاس، مثلما يجعل الأسماع تهيم تساؤلا معه، وكان قد أدخل “الدشت” إلى سلة المقامات العراقية القارئ أحمد زيدان في القرن الثامن عشر وأضفى عليه مسحة مقام البيات العربي، فصار عراقيا صرفا. و”الدشت” مفردة فارسية تعني الصحراء الممتدة على لمح البصر. لذلك تجد فيه اِلتياع مقام البيات الممتد مع الأنفاس، ففيه من الثراء النغمي ما يجعل الأسماع مترعة بالتساؤل، حتى أن سُلمه المقامي لا يختلف في الأبعاد عن مقام البيات بقدر ما يعتمد على الأداء، ولا تقترب الأصوات منه إلا من مهرت أداء المقامات العراقية.

 

وهكذا يبدو أن الغزالي كان في اختبار أدائي مع صوته وجمهوره آنذاك وهو يؤدي قصيدة الأخطل الصغير، حتى يمتد صوته أبعد من نبض القلوب عندما يصل إلى ذروة البيت العجيب في تساؤله “لوْ أَنَّ بعضَ هواكَ كان تعبُّـدًا/ وحياةِ عينِكَ ما دخلتُ جَهَنَّما.”

 

فيا مؤرخي الموسيقى العربية من كان فيكم عادلا ودوّن لنا مشاعر الأخطل الصغير وهو يستمع إلى الغزالي؟

قد يعجبك ايضا