الروائية أطياف رشيد تهدي روايتها لأمّها وإبنها الطاهر

 

 

اعداد: عدنان رحمن

اصدار: 28- 1- 2025

 

                      عن دار أيام للنشر والتوزيع- العراق- بغداد في العام 2022 صدرت الطبعة الاولى من رواية بعنوان ( رسائل الجنوب) للروائية أطياف رشيد، وفي عنوان مميز ( قبل عام) ورد ما يأتي:

– ” في ذلك الصباح من يوم الجمعة طوت خطواتي المسافة بين غرفتي حتى باب الدار الداخلي ثم عبر الكراج وصولا الى الباب الرئيس الخارجي للبيت، بطرفة عين يدفعني الفزع والرعب بسبب الصراخ الهادر الذي ايقظني والقادم من احد بيوت الجيران. كان صراخا مرعبا لنساء يستغثن. سمعت امي وهي تنادي زيد لا تخرج لكني كنت قد وصلت الى الباب وقبل ان افتحها رأيت الرايات السود المرفوعة عالياً من فوق الباب وسمعت هدير الآليات العسكرية وصوت صراخ المرأة كان يدمي القلب. فتحت الباب، كان المشهد مرعبا مهولا، سيارات رباعية الدفع مظللة، دبابات وعناصر داعش بزيهم ولثامهم الاسوَدَين ينتشرون في الشارع، وعند رأس الزقاق تربض مصفحة توجه مدفعها نحونا، لقد كان المشهد مليئا بالسواد، لم اكن وحدي من افزعها الصراخ، شعرت بأمي خلفي تحاول اختلاس النظر الى الشارع المزدحم بالناس الذين توقفوا عند عتبات بيوتهم كما فعلت انا لنتبين الامر، ولكن لم افهم ما يحدث، فقد كان واضحا انهم اقتحموا المنزل المقابل، حيث توقفت السيارات المظللة. انه بيت سارة واخواتها، وبيتهم يواجه بيتي تماما الباب قبالة الباب، لحظات مرّت ثم لاح عبر مدخل بيت سارة رجال بنفس الزي واللثام الأسوَدْ يسحبون سارة الى الخارج عنوة وهي تصرخ رافضة. اشتعل الدَمْ في عروقي ومثلي أيضا شابان من بيوت مجاورة اندفعوا نحوها، وكذلك فعلت انا لنجدتها وانقاذها، لكن الرصاصات كانت جاهزة لتغزوا أجساد الشابين فسقطا ارضا مضرجين بدمائهم، بينما توجهت نحوي بندقية لا ادري لِمَ صمتت ولم تهدر بلغتها الدموية كما فعل الآخرون مع الشابين، لقد ظل هذا الذي رفع السلاح بوجهي محدقاً بي بعينين حمراوين جامدتين واضعا رأس بندقيته في صدري، انسلّت امي من خلفي وتقدمتني لتدفعني نحو الداخل بصوت اختنق بالعبرات. كان الوضع قاسيا جدا، أجساد الشباب مسجاه على الأرض مثل حمائم تسيل الدماء منها، سارة تصرخ ترفض الذهاب مع عناصر الارهابيين، امي تبكي وتمسك بي كما لو أنها تمسك بروحها، وتدفعني الى الداخل، صوت اختي آمنة المختنق خوفا والمختبئة بعيدا عند نافذة الصالة المطلة على مدخل البيت والباب الخارجي. يا لَهُ من صباح مرعب. سُحبت سارة وادخلت عنوة الى احدى السيارات المظللّة، وما ان استقرت فيها حتى انطلقت العربات الواحدة تلو الأخرى مخلفة وراءها الغبار الأسود. آخر من ركب كان الشخص الذي رفع السلاح نحوي ولم يطلق النار عليَّ، صاحب العينين الحمراوين، لم يغادر حتى رمى نحوي نظرة تحذير وتهديد، مرّ في بالي سؤال: لماذا لم يطلق النار عليَّ؟. ولكن ما حيرني اكثر هو ان تلك العينين ليستا غريبتين ابداً، انا اعرفهما جيدا وبدتا انهما تعرفانني أيضا، وبينما كنت في غمرة التساؤل والحيرة، كان الصراخ والعويل لم ينته بمغادرتهم، سقطت ارضاً اخت سارة الكبرى وقد كانت بمثابة ام لها واندفعت النسوة لمساعدتها وادخلنها البيت. وحملت أجساد الشابين اللذين قتلا الى البيوت ولم يسمح بعدها باقامة عزاء لهما. أما لماذا سارة؟؟؟. منذ وقت وسارة تلتقي هي وشباب وشابات المنطقة بما يشبه التجمع للدفاع عن المدينة القديمة وتراثها وآثارها من الإرهاب الأسود والدمار الذي جاء به داعش، وكنا نسمع عن افكارها وخططها في الحفاظ عليها من خلال رفض أفكار الارهابيين ومحاربتهم، ولم يكن ما تفعله وزملاؤها وزميلاتها سرّاً، لم يكونوا يخشون الموت، ولهذا فان اخذها بهذه الطريقة وعلى مرأى ومسمع من الناس كان بمثابة رسالة واضحة لكل من يريد المحاولة للوقوف في وجه الارهاب، فتُهَمْ ارهابيي التنظيم جاهزة، أكيد وهي الكُفر والردّة. كما ان العقوبات جاهزة أيضاً. لايام لم يفارقني وجه سارة ولا صوتها، لم تفارقني رائحة دم الشباب، كانت اللحظات الأوجع على قلبي وصورة العينين الحمراوين قد ارتسمتا في ذاكرتي تبحث عن أصحابها. بقيت لايام وانا في غرفتي ممددة على السرير. ابكي، مريضة بالالم، مفجوعة بابناء منطقتي، مفجوعة بمدينتي أحاول ان استجمع قواي لاحتمل الألم ان أتذكر متى ولماذا بدأ كل هذا وكيف؟ ولا اجد له تفسيرا سوى انه خيّم فجأة ونفث السم مثلما ينفث البركان دخانه الأسود ويجثم على رئة الحياة. لا انام واذا نمت حلمت اني اجهش بالبكاء وإن دموعي لونها اخضر، اذكر اني رويت حلمي لامي فقالت ان الأخضر هو لون الارض ولون الدموع الأخضر هو لون روابي الموصل وهي متجذرة في ذاكرتي لهذا تتلون بها دموعي في المنام لايام وانا لا استطيع الخروج من المنزل، لا يطاوعني قلبي على المرور بالمكان حيث سقط الشابان وسالت دماؤهما لايام وانا ابحث عن اسم لتلك العينين اللتين لا اشك ابداً أني اعرفهما اللتين تقصدتا النظر إليَّ حتى بعد ان غادر الرتل، حيث ظل ذلك الشخص يحدّق بي وكأنه ينذر ويحذر ويُهدد. كان دفتر الذاكرة مليئاً بالاشخاص من زملاء الكلية او من الجيران ورحت ابحث بينهم واطابق تلك العينين على الوجوه التي اعرفها ومن كل قلبي كنت آمل ان لا اجد الوجه الذي تطابق عيناه تلك العينين، لا اريد ان يكون ممّن اعرفه له صلة بالارهاب، ولكن للاسف كنت اعرفها، والاسف الآن لا ينفع مع انضمامه لهم، لقد عرفته بالتأكيد انه هو. كان من نوع الناس الضائعين، لا يعرف ماذا يريد ولا الى أي جهة تنتمي روحه، تجده جامدا لا تبدو عليه اية عاطفة ولا يؤثر فيه أي حدث. يتصرف ببرود تجاه كل شي، يجالس أي مجموعة في الكلية رغم انه ليس بالصديق لاي احد منهم، مجرد انه يجلس ويستمع ثم تراه ينهض فجأة مبتعدا ويغيب لوقت طويل حتى يظهر ثانية. سعد ليس من أصدقائي المقربين ولكنه من أبناء المنطقة، بيتهم آخر بيوت الزقاق، وجمعتنا الكلية معا، كان يتواجد حيث نجتمع زملاء وزميلات ولا يشارك الحديث إلا ما ندر، وفي نهاية العام الدراسي بدأ يتغير، بدا انه اصبح عصبيا، يتدخل في كل شيء ويرفض وجود زميلاتنا ضمن المجموعة، اطلق لحية كثة واهمل ملابسه واحمرت عيناه كما رأيتها ذاك اليوم، لقد كان كمّن باع روحه للمجهول. تمنيت لو اواجهه واسأله هل انت راضٍ عن نفسك، راضٍ عمّا تفعله؟. ماذا تريد من هذا الذي تمضي فيه؟ هل تعتقد انه خيار صحيح؟. لماذا لا تراجع نفسك؟ وماذا عنّا نحن اهلك؟. ظلّت الأسئلة تدور في رأسي. مرَّ شهر وربما اكثر على هذا الحادث بالكاد استطعت ان اخرج الى الشارع، ولولا اني كنت مضطرة للذهاب للتسوق بدلا عن امي ما كنت دُستُ هذا الطريق ثانية ابدا، خرجت من الزقاق الى الشارع الرئيس وعبرته الى السوق حيث المحلات القليلة التي سمح الارهابيون لاصحابها بان تفتح للبيع

على ان تدفع ضريبة ، ضريبة من نوع ما السوق موحش ومجدب، وماهي

الا نصف ساعة درت فيها على المحال حتى جاء صوت الاذان من مكبر

الصوت في الجامع الكبير ، حاولت ان اسرع قبل الصلاة يالها من مفارقة

عجيبة ، أصبحت الصلاة ترعبني ، لان عناصر الارهاب حينها تنتشر

وتغلق كل المحال وتجبر الجميع على الدخول الى الصلاة ،ومن يعلم من يمكنه

النجاة والخروج سالما بعدها. اشتريت ما اريد و هممت مسرعا انوي العودة

الى البيت حين التقت عيناي بعيني سعد ، ولم يكن يرتدي ملابس الارهابيين

السود ، كان يلبس ملابس عادية : بنطال الكاوبوي الاسود وقميصا ابيض

التقت عيناي بعينيه وجمدت في مكاني اقترب مني وحدق في وجهي

لحظات ثم همس بوجهي وهو يضع اطراف أصابع يده اليسرى على اعلى

صدري من جهة اليسار

اياك ان تفتح فمك بكلمة ، أياك يازيد ، تذكر ان ماحدث مع سارة يمكن

ان يحدث مع اختك آمنة

ودفعني جانبا ومضى بطريقه

من این اتى بكل هذه القسوة والشر ؟

عدت الى البيت وانا اكاد اسقط من شدة القلق على آمنة ، في راسي الف

فكرة تثقل قلبي رميت أكياس البقالة والخضر على الأرض في الصالة

،

ودخلت الى غرفة امي كانت آمنة جالسة على السرير وامي الى جانبها

تضفر شعرها جدائل من محبة جلستُ عند أقدامهما مقهورا واجهشتُ

بالبكاء .

 

قد يعجبك ايضا