مهند محمود شوقي
في كل مرة يحاول المزاودون (ولن نتجاوز إذا وصفنا بعضا منهم بالغوغاء)، أن ينالوا من وضع حكومة إقليم كوردستان، فأن مراهنتهم تقوم على محاولة استفزاز القيادة الكردية، أكثر منها رغبتهم في تشخيص خلل ومحاولة علاجه. أطرف ما في هذه المحاولات أن هؤلاء لا يتعلمون من دروسهم نفسها، ويعيدون تكرار نفس الأسلوب، وفي كل مرة يأتيهم الرد هادئا ومباشرا وصريحا.
في المقابلة التي أجرتها الإعلامية الأميركية هادلي غامبل، مع مسرور بارزاني رئيس حكومة أربيل، في إطار “ملتقى الأمن والسلام في الشرق الأوسط” (MEPS2024) المنعقد في دهوك بين 22 و23 نوفمبر (تشرين الثاني)، من الأدلة ما يكفي ويزيد على أنه واحد ممن يقفون على طرفي نقيض مع “الغوغائيين” و”المزاودين”. فقد راح بارزاني يرد بهدوء وموضوعيّة على أسئلة غامبل. والمحاورة غامبل، لمن لا يعرفها، سبق وأن عملت مقدمة برامج في تلفزيون سي إن بي سي الأميركي. تحدث عن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب من دون أن يهاجمه، ككثير من المسؤولين في منطقتنا، أو يثني عليه. كما أعرب عن احترامه لناخبيه، مؤكداً على أن اختياره “هو من شأن الشعب الأميركي الذي يقرر شكل الحكومة التي يريدها”.
لا شك أن بارزاني لا يريد أن يضع كوردستان وشرعيتها أمام الولايات المتحدة وشرعيتها. فالإشارة إلى حق الأميركيين السيادي في اختيار من يتولى حكمهم، إنما هو للتذكير بأن ما يشير إليه ترامب عن سلام شامل في المنطقة، يجب أن يمر في حق الكرد السيادي في تقرير مصير دولتهم وطريقة بناء الحكم فيها. أي، كما قال الرئيس مسرور يأمل “أن تؤخذ مصلحة الشعب [في دول الشرق الأوسط] في الاعتبار” وألا تُعالج هذه النزاعات من وراء ظهر الذين يكتوون بنارها.
وانطلاقاًً من فكرة التذكير باحترام السيادة الأميركية ذاتها، يصرّ رئيس حكومة كوردستان على تمتع الإقليم بالحرية الكاملة لإقامة العلاقات التجارية والسياسية مع أي دولة أخرى. فهذا حقه السيادي المشروع، بصرف النظر عما تريده صديقته العزيزة أميركا أو غيرها. ويقول “لدينا علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وجميع أصدقائنا الغربيين، بيد أن ذلك لا يعني أننا لا نستطيع أن نقيم علاقات جيدة مع الصين.” ويلفت إلى أن الإقليم تجمعه روابط حسنة بكل من بكين وموسكو، وللاثنتين شركات تعمل فيه.
وحق كوردستان في أن يكون سيداً على شؤونه، يعود مجدداً إلى الواجهة مرة تلو أخرى خلال المقابلة. فإذا كانت بغداد تعتقد أن داعش قد انتهت ولم يعد هناك إرهاب في العراق، أي أن لا حاجة بها لاستضافة الأميركيين على أراضيها، فهذا رأيها، ولدى كردستان “أفكاراً مختلفة”. ويضيف بارزاني “لا نعتقد أن الإرهاب قد انتهى. ونظن أن داعش لم تزل على حالها”. وفي حال غادر الأميركيون سيصبح من الضروري العثور على “بدائل لملء الفراغ الذي تركوه وراءهم.” والحل الطبيعي، في نظره، هو بقاء الأميركيين والحفاظ على العلاقات الطيبة مع واشنطن بهدف ضمان “الاستقرار الاقتصادي والسياسي و[توفير] المزيد من الأمان بدون شك.”
والتباين مع بغداد لا يقتصر على العلاقة مع واشنطن، بل يشمل قضايا عديدة بينها الموقف من إيران التي يحترمها، لكنه يشير إلى أنها تتمتع “بالكثير من النفوذ (…) أما إذا كان هذا قد تم بقرار العراقيين أو أنه قد فرض عليهم” فهذا أمر آخر. هكذا يمتنع الرئيس مسرور عن محاكمة بغداد، بل يبدي تفهماً لموقفها قائلاً إن إيران دولة “مهمة” بالنسبة إليها.
وعلى الرغم من المسائل الخلافية المعروفة بين بغداد وأربيل، تجد الرئيس مسرور يتعاطى مع الحكومة المركزية باحترام، ناصحاً، متفهماً، معرباً عن تمنياته بأن تقيم علاقات مثمرة تناسبها مع دول الغرب وغيرها، وأن تنوع في اقتصادها، كما تفعل كردستان، بدلاً من الاعتماد على النفط وحده. وحينما يفكر بمصلحة كوردستان يأخذ مصلحة العراق في الحسبان، لافتاً إلى أن توزيع ثروات البلاد من البترول بشكل خاطئ لا يضر بالإقليم فقط، بل يؤذي العراق برمته.
الخلاف النفطي بين بغداد وأربيل ينبغي أن يناقش بتجرد. من السهل على بارزاني أن يستخدم مفردات السياسيين المعتادة، للقفز على الحقائق – بل وشخصنة المشكلة. لكنه يعمد إلى سوق الأدلة عندما يضع الخلاف في إطاره الأساسي: “ليس لدى العراق قانون للنفط”. فالقانون المعتمد “يعود إلى عهد صدام، وقد صمم من أجل حكومة مركزية وليس بوسعه أن يخدم نظاماً فيدرالياً”. أما الحل الذي يقترحه فمنسجم مع هذا التشخيص، إذ يتمثل في سنّ قانون جديد ليحل محل ذاك الذي عفا عليه الزمن.
لكن النفط ليس وحده القضية الشائكة في العلاقة بين بغداد وأربيل. فالمرأة واحدة من “الأقليات” التي تُصادر حقوقها، وهو أمر مقلق كما شخصه بارزاني. ويؤكد على أن “كل شخص في البلاد، يجب أن يتمتع بحقوق متساوية”. وهنا يسلط الضوء على جانب مهم في الجدال حول الديمقراطية التي لا ينبغي أن تكون مجرد عملية انتخابية ميكانيكية. ويتساءل أليس من الصعب بناء مجتمع متطور يعيش أبناؤه برخاء “عندما تعني الديمقراطية فقط حكم الأغلبية من دون أي اعتبار للأقليات”. ويتابع أن ” الافتقار إلى المساواة (…) هو مصدر العديد من المشكلات التي تواجهنا”.
تابع مراقبون المقابلة بحثا فيها عما يسيء للحكومة الكردية أو الزعامات أو ما يشخص كإخفاقات سابقة أو ممكن اعتبارها مشاريع لأزمات قادمة. لكنهم، وكما حدث من قبل، جاءت المقابلة لترسم صورة واضحة المعالم لقائد قادر على الأخذ بيد بلاده نحو غدٍ آمن تتجنب فيه الكثير من الأزمات.