د. اسعد الإمارة
التحدي الذي يواجه الإنسان في شعوره بعدم الإنتماء للوطن هو الإحساس بالعزلة والوحدة صراع الألفة في مقابل العزلة.. هل سيختار الألفة والتكيف مع الناس في المجتمع أم تفضيل العزلة وهي أسوء الحلول وهي تشبه حالة الإنسلاخ من الواقع حيث توقظ أزمات الماضي وكل خيبات الأمل والفشل التي تتعارض…
إن البناء النفسي–الإجتماعي لدى الإنسان هو نمو إنساني من أول لبنة توضع في البناء أو epigenesis لنقل مثل فكرة التوالد الذاتي المعروفة في علم الأجنة، وموجزها أن الذي يوجد في البداية اساساً هو امكانية النمو ونشوء الاعضاء والصفات المختلفة التي تميز كل عضو ولكن هذا النمو يحدث بالتراكم وفي خطوات متتالية حتى اكتمال جسم الكائن الإنساني-البشري بالتدريج والترتيب المتتالي.
أما النمو الانساني فانه يتكون من منطلق وصف الجوانب النفسية–الاجتماعية في البناء، وكيف تكونت لكي تنمو.. نحن هنا أمام بداية بناء صحيح لكي ينمو صحيحاً اذا ما كانت المرحلة الاولى من عمر الانسان يغلب عليها تحدي الإنجاز والمواجهة ورفض التراكمات البالية من الأبنية الاخرى مثل السياسية “الدكتاتورية وبقاياها” الإجتماعية “القيم والتقاليد والأعراف”، النفسية “العدوان والضغينة والحقد والأنانية الذاتية وانعكاساتها على مؤسسات الدولة والتعاملات مع افراد المجتمع، “الإقتصادية” القرار الفردي غير المدروس وغير الناضج من ذات تتسم بَنفَسْ الادارة الدكتاتورية والتسلط وعدم قبول الرأي الآخر”، واخيراً طبيعة النظام الذي يدير الادارة وهو ما جُبلت عليه انظمة العالم الثالث وهو التسلط والإقصاء ورفض الآخر كشريك فاعل.
إن النظام الإجتماعي–الإداري–السيكولوجي السائد في المجتمعات العربية والإسلامية يفهم الإعتراف بالآخر هو صراع إرادات في حالتها غير الصحية، لا يفهما “تداول” حقيقي للإرادات بل يعَدها لوي ذراع، أو فشل أو اقصاء له وبالتالي يصبح الآخر عدوي حتى وإن قدم المشورة الصادقة.
إن الأنظمة السائدة في كل “جميع” البلدان حتى وإن تحررت من سلطة الدكتاتورية التي حكمت لا يقل عن ثلاثة عقود في معظم البلدان العربية والإسلامية، ما زال الحاكم الجديد يعمل بنفس التوجه ونفس التكوين وكأنه لاشعوريا الحاكم الأوحد، الآمر الناهي!!.
إن البناء النفسي هو بناء عقل مفكر وليس عقل تابع يأتمر كالعبد أمام السيد، وهذه أزمة نعيشها في عالمنا اليوم أزمة العقل العربي أو أزمة عقل في العالم الثالث عموماً وهذه الأزمة تتجلى على المستوى السيكولوجي في المجال السياسي، لإن الحاكم ينظر الى الديمقراطية كما يريد أن يفصلها أو يبنيها، وهي أزمة العلاقة بين الجماهير من جانب والسلطة من جانب آخر.
الحاكم الجديد ما بعد عصر الدكتاتوريات المقيتة يريد بناء الانسان كما يراه حزبه أو ممن أوصلوه للسلطة، أو ممن يؤمن بمرجعيتهم. فهو اعاد تجربة سلطة الأب القاسي الظالم بشكلها الأوسع، يأمر فيطاع وهي سلطة الابوية المطلقة، ولا نغالي اذا قلنا أن النظم السياسية في غالبية بلدان العالم الثالث وبلداننا العربية وريث حقيقي شرعي للاستبداد الأبوي، للأب المطلق في جبروته وللأبناء في طاعتهم المطلقة لهم، وفي خضوعهم المطلق له، الجيش ومؤسساته يجب أن يعلن الطاعة له، المؤسسات الأمنية يجب أن تعلن الولاء له، مؤسسات التعليم العالي والتربية يجب أن تدين بالولاء له.. هل بهذه الطريقة يبنى الإنسان في العالم العربي أو العالم الثالث؟؟؟ هل يمكن أن تستوي الأمور بهذه الطريقة لبناء بلد؟
إن الحاكم في عصر ما بعد الدكتاتورية في علاقة صراع وتناقض، تتأرجح بين القبول المطلق والرفض المطلق معاً وفي آن واحد على نحو يتسم بما يطلق عليه في التحليل النفسي بالثنائية الوجدانية أو التناقض.
إن البناء الإجتماعي أو النفسي أو الإداري أو السياسي باعتماد بناء مؤسسات لا علاقة للسيد الآمر الناهي بها، أن لا يرى نفسه فوق الجميع، صاحب السلطة المطلقة حتى في تعيين فراش أو منظف في اصغر مؤسسة يجب ان يرجع الأمر بموافقته وتبريكاته له!!! أنه يستشار ويتابع فقط!! حتى لا نستبدل فكر بفكر.. حاكم دكتاتوري متسلط بآخر متسلط دكتاتوري وكلاهما سيان.
الإنتماء وبناء الإنسان:
لايمكن أن يبنى الإنسان في أية دولة لايشعر مواطنوها بالإنتماء بحقيقة إنتمائهم للبلد، فالمواطنة هي تأكيد للذات وهي الهوية التي يحملها المواطن من اسرته أولاً ويتعلمها لأنها إكتساب وسرعان ما يشعر بإنفصاله النفسي عن هذا الإنتماء فإنه يمهد لتكوين تضاد في كل مواقف وأفعال تتحول من الجانب النظري إلى الميداني مثل الإنخراط بالجماعات الساعية للتهديم أو اعتناق فكر متطرف..الخ.
إن التحدي الذي يواجه الإنسان في شعوره بعدم الإنتماء للوطن هو الإحساس بالعزلة والوحدة وبتعبير علماء النفس صراع الألفة في مقابل العزلة.. هل سيختار الألفة والتكيف مع الناس في المجتمع أم تفضيل العزلة وهي أسوء الحلول وهي تشبه حالة الإنسلاخ من الواقع حيث توقظ أزمات الماضي وكل خيبات الأمل والفشل التي تتعارض مع طموحه الشخصي في إحترام الإنسان في وطنه أولاً، الذي يتعلم هذا من بيته أولاً ايضاً ثم يبدأ بتأكيد هويته وتحديد ذاته مما يجعله مستعداً للتخلي عن ذاتيته من خلال مشاركته الشاملة مع آخر وهي الدولة وبرامجها التنموية من أجل بناء الإنسان.
إن الدولة تعلم الفرد “المواطن” قبوله المشاركة مع فريق فيه علاقات مع زملاء ورؤساء ومرؤوسين سواءاً على المستوى الرسمي أو على المستوى الشعبي–غير الرسمي، وفي حالة النجاح فإنه لا يشعر بالتهديد لهويته أو لذاته أو يختل إنتماءه لهذا الوطن حتى وان تنازل عن شيء منه لخدمة الدولة أو للمجتمع.
ان الدولة تسعى لبناء المجتمع الأوسع في إختيار نوع العلاقة بين المواطن “الفرد” وبين السلطة “مؤسسات الدولة وأجهزتها” فحينما يشعر هذا المواطن بالأمان والاستقلال في رأيه وهي تحميه يأخذ زمام المبادرة ومنها تنمو ذاته ثم يشعر بالألفة نحو الاخرين وتتبلور هذه نحو تكوين هوية تؤكد شخصية هذا المواطن وسماته الثابتة نسبياً ولا يشعر بالمساس بشخصيته وهذا يفسر لنا إقتراب الفرد من المواطنة والشعور بالإنتماء وهو يمكن أن نطلق عليه “إقتراب الانداد”، لطالما علمتنا الانظمة الدكتاتورية في حكمها عبر عقود وعقود عدم إحترام المواطن والاستهانة به وبرأيه واستصغاره، وهو “صراع الانداد” الدولة والمواطن الإنتماء والهوية مقابل مصادرة الرأي والشخصية والإذعان ثم الطاعة العمياء.
يحق لنا القول إن الإحباط يسبب الشعور بالدونية لدى المواطن الذي تنظر اليه الدولة بتلك النظرة التي تحطم بها معنوياته فضروب الإحباط والإذلال فضلا عن السلطات بأنواعها ومؤسسات الدولة القائمة على خدمة المواطن تتصف بالحذر دائما من المواطن وتوصيات المؤسسات الحكومية لا تكف عن ترديد مختلف صنوف التحقير للمواطن حتى تكاد كل تلك المخاوف تسبب انواع الضغوط التي تحيط بالمواطن.
وهذا ما تذكرنا به دراسات وادبيات علم النفس التي ترى بأنها مثل الأم السلطوية التي تتصنع اللطف بأبنائها ولكن في الحقيقة هي ميول عنيفة ضد الشعب عموماً، والمواطن–الفرد خصوصاً وهي دوافع كراهية نحو السلطة، اياً كانت.. فلم تقم سلطة عبر التاريخ في بلداننا العربية تحترم الإنسان بما هو إنسان، ولم تحترم حقوق المواطنة، ولم تقدس الإنتماء، فكلها مفاهيم زيف وغير حقيقية.