الفريد سمعان .. شاعر وقضية، وإنسان من طراز خاص

 

بطرس نباتي

نبذة عن حياته

يعدّ ألفريد سمعان، وهو من مواليد الموصل 1928، من أبرز الأصوات الأدبية خلال سبعينيات القرن المنصرم، لا في الشعر فقط، بل في القصة وكتابة المسرحيات الشعرية والإعلام أيضًا، هذا إضافة إلى عمله في المحاماة لأكثر من عقدين من الزمن، وقد شغل منصب الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب العراقيين بعد 2003 وقد كان مسهمًا في تأسيسه مع الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري فضلًا عن مساهمته في افتتاحه عام 1977.

أصدر ألفريد أكثر من عشرين مؤلَّفًا بين الشعر والمسرح والقصة، كان أولها مجموعة شعرية بعنوان (طريق الحياة) نشرها عام 1952، وله مجاميع قصصية عديدة، منها: (النواقيس لا تدق، نبوءة متأخرة وأشرعة الصدى البعيد)، كما كتب عدّة مسرحيات منها: (الحطاب والأسد، ليمونة).

اِنتسب إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي وسُجِن أكثر من مرة بين عامي 1948 و1963 كما تعرض إلى التعذيب أكثر من مرة وكان آخرها تعرضه للضرب والاعتداء في 17 تموز2017، وهذه الأخيرة آلمته كثيرًا لأنها جاءت بعد زوال الحكم الديكتاتوري. وأكثر ما آلم شاعرنا كان وداعه لزوجته (أم شروق)، السيدة جاكلين ألياس رزوقي، حيث قتلت في ظروف غامضة عام 1967وظل وفيًّا لها حتى وفاته، يقول الزميل حسب الله يحيى في استذكاراته عن ألفريد سمعان: قلت له ما زلت شابًّا، لماذا لم تتزوج بعد رحيل زوجتك؟ اِستشاط ألفريد غضبًا ونهض عن مقعده صارخًا بوجه محدثِّه قائلًا: ألا تخجل من هذا السؤال، ماذا أقول لأم شروق؟ فأجابه: لكنها ماتت. ردّ عليه ألفريد قائلًا: لا… لا… لم تمت أُم شروق، هي حيّة لا تموت. لقد عاش ألفريد على ذكراها وكان ألمه يتعاظم وخاصة بعد أن هاجر كل أبنائه وأصبح وحيدًا، لذلك كان قد اتخذ قرار الهجرة، ولكن الموت لم يمهله حيث ودَّع الحياة بتاريخ 5 كانون الثاني2021 في العاصمة الأردنية عمان عن عمر ناهز93 عامًا.

وكان الرّاحل دائم التردد على المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية وضيَّفته كممثل لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق أثناء انعقاد حلقتها الدراسية الثالثة حول دور السريان في الثقافة العراقية التي حملت اسم الأديب والروائي والمؤرخ العراقي المطران (سليمان صائغ)، في تشرين الثاني 2012.

 

 

ثم تكرّرت زياراته إلى المديرية العامة بعد مكوثه في عنكاوا قبل سفره إلى عمان، حيث جرى تكريمه من قبل مديرها العام الأسبق الكاتب والأديب الراحل سعدي المالح.

رحلته مع الألم: قصيدة (القطار) أنموذجًا

هناك عدة سمات بارزة تميز شاعرية ألفريد وتتخلل قصائده، لعل أبرزها ذلك الحزن أو الشجن الذي رافقه طيلة حياته، فأصبح كظاهرة مستديمة ترافقه في الزمان والمكان (يرافقني النهر/ تمتد فيه جذور حياتي/ وتنصب فيه روافد أحزاني)، إن للحزن عند الشاعر عدة روافد وليس رافدًا واحدًا، فنهر الألم هذا يتفرع  إلى عدة روافد، يرافقه، يمتزج فيه، ويظهر جليًّا سواء في قصيدته عن قطار الموت أو في القصائد الأخرى، فمنذ انطلاق هذا القطار المشؤوم عندما أوصوا سائقه (عبد عباس المفرجي) أن يقوده ببطء شديد لأنه يحمل بضاعة خاصة من بغداد، (كتابوت حديديّ) حاملًا (500) من السجناء السياسيين بينهم ضباط ومثقفون، وكان شاعرنا ألفريد أحد ركابه. فحينما يحدثنا عن هذا الألم المتجذر في حياته منذ تلك اللحظة، فكأنه يحدثنا من داخل ذاك التابوت وليس من خارجه. يبدأ قصيدته بهذا الاستهلال بوصف مؤلم عبر معزوفة حزينة تعبّر عن مدى الألم والعذاب الذي كان يعانيه هؤلاء المحشورون داخل هذا التابوت المحكم الأقفال.

(مسافر مع المتاهات/ قطار الحقد والأحزان والخوف وأصداء الوعيد/ مرتعش يشق عبر النخيل دربه)، يمضي ببطء شديد، لأن القتلة هكذا طلبوا من سائقه المسكين وهو لا يدري ماذا يحمل سوى أنهم بضاعة خاصة.

ثم يسترسل ألفريد ذاكرًا ما كان يحمله هذا التابوت الحديدي ومن هم ركابه المساقون إلى الموت حرقًا… (فهذا القطار محمّل/ بباقة ثورية/ تفوح منها الذكريات/ تحملها أشرعة الأمجاد والمرافئ الحمراء).

وهنا يذكر شاعرنا حراس قطار الموت هذا عند انطلاقه من محطة قطارات الحمل من بغداد فيقول (أجنحة الشؤم تحوم حولهم/ ترصدهم بنادق الإرهاب/ ما بين أيدي الحرس القومي/ رواد المواخير.. وأشباه الرجال وجوقة اللصوص).

بهذه المقاطع تكشف القصيدة لنا وبقصد ظاهر، حدَّ المباشرة، من هم ركاب هذا التابوت (باقة ثورية) (مرافئ حمراء)، دلالات واضحة المعنى والقصد أيضًا، وحراسه (الحرس القومي) سيِّئ الصيت، يدعوهم (رواد المواخير). أما هم فمحشورون في قطار الموت ذي الأبواب الموصدة بإحكام بلا نوافذ بلا كوّة صغيرة حتى للتنفس، وهو يجري ببطء شديد في قيظ تصل درجة حرارته إلى 55درجة مئوية، يسوقه شخص محمَّل بتوصية أن يسير ببطء شديد، فالقطار يحمل بضاعة خاصة يجب الحفاظ عليها، فيقول الشاعر واصفًا الزمن المستغرق لوصوله: (لا ندري كيف تعبر الساعات/ ما يجري.. إلى أين؟ قطار الموت والآهات يمضي مع سواد الليل البهيم).

بهذه العبارات الدامية يعبر الشاعر عن جهله وجهل جميع من في القطار بما ينتظرهم من مصير، لا يفكر فيه سوى المتمرسون في التعذيب حتى الموت، إنهم يساقون إلى حتوفهم وسط هذا التابوت الجهنمي، ولكن رغم نتاتة هذه الوسائل ورغم ما ينتظرهم من مصير (الموت حرقًا) إلا أن الشاعر يصرخ مما يعانيه رافضًا الرضوخ لإرادة القتلة وتكاد تكون صرخته شعارًا أو هتافًا مباشرًا بوجه من يتوعد بالقتل وبمزيد من الأشلاء ويقول: (قولوا لمن يتوعدون/ لن ينطفئ فجر الحقيقة بين أشلاء المتاعب والمآسي).

 

 

هذا الخطاب الشعري الرافض المتمرد على أعداء الحرية والمصرّ أبدًا  على المبادئ، هو الغالب والذي نكتشفه من خلال قراءتنا لمجمل نتاج ألفريد  سمعان، سواء في مجاميعه الشعرية أو القصصية أو في كتاباته المسرحية، ففي ديوانه (التعب المسافر) المطبوع في 2006/ أربيل، دار آراس، يواصل الشاعر مسيرته بالغضب نفسه والرفض وعدم الانصياع للواقع المزري، وهذه الركيزة الثانية في شعر ألفريد، واصفًا ما يتعرض له المناضلون من الألم ذاته الذي تعرض له ركاب قطار الموت ولكن بشكل آخر، بحملهم على الهجرة نحو المنافي. يقول في قصيدة له بعنوان سلامًا أيها الجواهري:

(يتواصل العطش المزمجر/ نحو شرفات الوطن/ تتردد الصلوات/ في المنفى/ تعانقها أصداء تاريخ مهاجر/ تتأرجح النزعات والأهواء/ تكتم جراحها عن كل مرتحل وعابر.

هذا الهمّ وهذا الهاجس بـ (شرفات الوطن) وبالتاريخ وبمدن الوطن المنكوبة يكاد لا يفارقه في مجمل نتاجه الشعري، أضف إلى ذلك الروح النضالية والنفَس الطويل والإيمان بانتصار القضية. في قصيدة في المجموعة ذاتها مهداة إلى كوردستان، يتحدث عن تلك الأيام التي لا تُنسى حين اتخذّ جبال كوردستان موطنًا للتحدي والنضال، يقول: (ذاكرة الأيام لن تقوى على النسيان/ لن تلقى على مضاجع الفجر الظلام/ لن تركع السواعد الجذلى لقطعان الذئاب).

وعندما يكتب عن الصمود كركيزة أخرى تكتنف معظم قصائده وكأنه يؤرخ لتاريخ الحركة الوطنية كلها بتفاصيلها شعرًا ويؤرخ لتاريخ انتمائه إليها.

مميزات شعر ألفريد سمعان

تتميز قصائد ألفريد باستخدامه للغة العربية الفصحى البسيطة السلسة ذات المعاني الواضحة التي يسهل على المتلقي فهمها مع إدخال بعض المفردات الخلابة التي تجذب القارئ ويقوم بتكرارها وضمّها إلى معظم قصائده، أذكر منها (جذلى، الطيور، أعاصير، معربدة من شفاه، همس، وريقات وغيرها).

ينوّع في الصور البلاغية في القصيدة الواحدة ويوظّفها في خدمة النص الشعري (شهق الناقوس، مررت بالبساتين، شجون، الهمسات، نثروا فوق مروج الشوق، والأنغام قنديل البشارات)، وغيرها من الصور الشعرية.

الملاحَظ أننا لا نجد في أيٍّ من قصائده أنه يفتخر بنفسه أو بالعشيرة، حيث حلّ محلها حلم جميل بالآتي، ولا يخاطب بـ(أنا) كما نلاحظ لدى معظم شعراء العرب، بل ما يفتخر به هو همّه الأول والأخير، الذي يركّز عليه خطابه الشعري، ألا وهو الوطن، ثم أولئك المناضلون في سبيل الحرية، ثم المرأة التي تحتل جزءًا كبيرًا من خطابه الشعري، ولا يلتزم بالقافية، بل تجري القصيدة عنده وفق بحور الشعر العربي محافظًا على موسيقى خافتة تتخلّل مقاطعه الشعرية عندما ينظم قصائد الشعر الحر. كما نظم قصيدة النثر أيضًا، حيث تضمنت قصائده موسيقى هادئة ثم تتصاعد بتصاعد روح الرفض والثورية في ذاته الشاعرة، فتزيد الرغبة لدى المتلقي في الاستزادة من قراءة شعره إذ يقول في أحد مقاطعه الشعرية في قصيدته عن قطار الموت: (الدم والمنايا/ هيهات تركع للسيط خيولنا/ لن نترك الإعصار يجلدنا/ ويقتلع النسائم من ثرانا).

فهذا المقطع المتميز يكشف عن قدرة الشعر على التقاط أسلوب الإشارة الذكية والتصوير السريع الذي يثير به مشاعر المتلقي ويرسم أمامه أكثر من علامة

استفهام وتعجب

هكذا يمضي الشاعر في خطابه الشعري مضمّنًا إياه القيم والأساليب الجمالية وما فيها من صور تشبيهية واستعارية ولفظية كلها نجدها حاضرة في نصه الشعري، وإلى جانب ذلك نجد في بعض قصائده، في بداية مسيرته في كتابة الشعر على وجه الخصوص، جنوحه نحو المباشرة والخطابية عندما كان يجتاحه الألم وتحيط به الأحزان والأهوال من كل جانب كما في قصيدته قطار الموت وفي مجموعته الأخرى في طريق الحياة التي صدرت في 1952 ورماد الوهج 1954. نختم مقالنا هذا بهذه الأبيات من شعره في رثاء زوجته يقول فيها:

أُم الحنان..

يا أُم الحنان وأُم أولادي

ونافذتي على وادي الرجاء

وخمر قصائدي… الأولى

ونبع مشاعري الصافي

وزهرة عمري المغروس

بالنفحات والنجوى

ومرفأ ذكرياتي

الله

إن حبيبك المغدور

يلهث

يشتري الحسرات

يستعطي دموع الآخرين

ما عادت.. . الأنغام تشجيه

ولا الكاسات… ترويه

ولا الأنسام تحمل نشوة الأفراح

أغرقت الهموم… وفيضها العاتي.. خمائله

وحاصره الظلام

عبثت به سحب الكآبة

غادرته الأمنيات.

قد يعجبك ايضا