حامد الكناني كاتب وباحث
لم يكن الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي على وفاق مع الغرب، إلا أنه في أواخر أغسطس (آب) عام 1994 دعا مجموعة من القادة ورؤساء الدول لحضور احتفالات اليوبيل الفضي لذكرى الانقلاب الذي قاده لإنهاء الحكم الملكي في سبتمبر (أيلول) 1969. وأرسل القذافي دعوات إلى ملكة بريطانيا ورئيس حكومتها وإلى فرنسا وإيطاليا وعدد من دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن استجابتهم كانت ضعيفة، وربما في محلها، فما بدا كبادرة لطي صفحة الخلافات تسبب لاحقاً في تعميق توتر العلاقات الليبية مع الغرب.
دوس الأعلام
تكشف وثائق بريطانية نشرتها”اندبندنت عربية” للمرة الأولى عن أن احتفالات الثورة تضمنت مشهداً أشرفت عليه وزارة التعليم الليبية، حيث وضعت الأعلام البريطانية والأميركية والفرنسية على الأرض وسارت عليها ثلاث ليبيات، واحدة ترتدي زياً عسكرياً تحمل العلم الليبي واثنتان ترتديان زي الجودو تحملان صورة القذافي وبندقية كلاشينكوف.
بدا القذافي مستمتعاً بمشهد دوس الأعلام الذي ذيع في التلفزيون. ودانت فرنسا وبريطانيا الحادثة، في حين طلبت البعثات الأوروبية في طرابلس من رئاسة الاتحاد الأوروبي التضامن مع الدولتين والتعبير عن رفض هذه الإساءات، وفق برقية للسفارة البريطانية بتاريخ 5 سبتمبر 1994.
وأبلغ القائم بالأعمال الفرنسي الذي حضر على رغم عدم دعوته بلاده بالحادثة على الفور، وقدمت فرنسا في الثاني من سبتمبر احتجاجاً إلى البعثة الليبية في باريس وقالت إن تدنيس علمها والسماح بذلك أمام رؤساء ووزراء دول تربطها بفرنسا علاقات ودية “غير مقبول” بخاصة أن رئيس الدولة ورئيس الوزراء الفرنسيين كانا مدعوين وكان من الممكن أن يكونا حاضرين.
إذن مجلس الأمن
غطى هذا المشهد على الحدث الأبرز وهو العرض العسكري للدبابات والمقاتلات، والخطاب الطويل للقذافي المحتفل بعيد ميلاده الـ52 والذي تجاوز 22 صفحة. وما كان من شأنه بادرة لردم الخلافات تحول إلى مشكلة دبلوماسية، في إطار النهج الصدامي الذي أحبه الزعيم الليبي، وأدى إلى تنفير دول عربية وغربية مهمة، وتطويق ليبيا بالعقوبات الأممية لإجباره على تسليم الولايات المتحدة أو بريطانيا مشتبهين ليبيين في تفجير لوكربي عام 1988 الذي قتل 270 شخصاً. وشملت العقوبات حظر الرحلات الجوية المدنية من وإلى ليبيا، وبيع أجزاء الطائرات والأسلحة وبعض معدات صناعة النفط، وتجميد أصول ليبية، باستثناء بيع النفط ومنتجاته.
رفض أمير الكويت الراحل الشيح جابر الأحمد دعوة القذافي لاحتفال الثورة وقال لمبعوثه مصطفى الخروبي إن “ليبيا يجب أن تتعايش مع الحقائق” وتمتثل لقرارات مجلس الأمن.
في الـ30 من أغسطس 1994 أبلغت وزارة الخارجية البريطانية الدبلوماسي ألين براون في طرابلس برفض الدعوات الموجهة إلى الملكة البريطانية ورئيس الوزراء رسمياً، وعدم الحضور في الاحتفالات بصفته ممثلاً عن الملكة. وأعلنت بعثة النمسا في الاتحاد الأوروبي أن الرئيس الفيدرالي النمساوي والمستشارة رفضا الدعوة التي وصلتهما من لجنة التنسيق بين الاتحاد الأفريقي وليبيا وقالت إن السفير سيمثل النمسا وسيبعث الرئيس برسالة تهنئة إلى القذافي بمناسبة عيد ميلاده
وفي علامة على الضغوط والعزلة الدولية، طلبت ليبيا من القادة المدعوين تأمين إذن خاص من مجلس الأمن للسماح لطائراتهم الخاصة بالهبوط، وفقاً للبرقية المرسلة بتاريخ الـ23 من أغسطس 1994 من قبل المندوب البريطاني في “بعثة المراقبة التابعة للاتحاد الأوروبي” في طرابلس. وتلقت بعثات دول الاتحاد الأوروبي اتصالات شفوية من مكتب الاتصال الخارجي الليبي تستفسر عن قبول الدعوة من عدمها، وما إذا كان المتلقون سيتقدمون بطلب إلى مجلس الأمن للحصول على إذن هبوط لطائراتهم الخاصة.
واستبعد المندوب البريطاني مشاركة رسمية لزعماء الاتحاد الأوروبي والشخصيات غير العربية في هذه الاحتفالات، قائلاً، “في الثامن من أغسطس، أرسل قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا نسخاً من دعوات القذافي إلى جلالة الملكة ورئيس الوزراء لحضور الاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لانطلاقة الثورة الليبية. وأصل الدعوة في طريقها عبر إيطاليا.
الرد الأوروبي
غرقت طرابلس في الطلاء الأخضر استعداداً للحدث المهم، نُظّفت الساحة الخضراء، وبدأت القوات الجوية التدرب للعرض بطلعات جوية حول المدينة، لكن معظم الدول بخاصة الغربية لم تكن متحمسة بالقدر نفسه. دعت ليبيا قادة نحو 80 دولة ولم يلب من القادة الدعوة إلا رؤساء السودان والجزائر وتشاد ومالي وجزر القمر.
وفي الـ30 من أغسطس 1994 أبلغت وزارة الخارجية البريطانية الدبلوماسي ألين براون في طرابلس برفض الدعوات الموجهة إلى الملكة البريطانية ورئيس الوزراء رسمياً، وعدم الحضور في الاحتفالات بصفته ممثلاً عن الملكة. وأعلنت بعثة النمسا في الاتحاد الأوروبي أن الرئيس الفيدرالي النمساوي والمستشارة رفضا الدعوة التي وصلتهما من لجنة التنسيق بين الاتحاد الأفريقي وليبيا وقالت إن السفير سيمثل النمسا وسيبعث الرئيس برسالة تهنئة إلى القذافي بمناسبة عيد ميلاده.
ورفضت إيطاليا دعوة الزعيم الليبي للرئيس أوسكار لويجي سكالفارو ورئيس الحكومة سيلفيو برلسكوني ووجهت السفير الإيطالي في طرابلس لحضور الاحتفال. ورفضت هولندا هي الأخرى الدعوات إلا أنها استفسرت من شركائها الأوروبيين حول موقفهم، وجاء البرقية، “ستكون هولندا ممتنة لمعرفة ما إذا كان الشركاء الآخرون قد تلقوا دعوات مماثلة، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف استجابوا لها”.
في المقابل أرسلت النيجر رئيس وزرائها، وكوريا الشمالية نائباً للرئيس، ودول أخرى اكتفت بتمثيل وزاري. وأرسلت باكستان وفداً، ولم تشارك الهند أو بنغلاديش. وحضر أمينا منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية.
وفي حين شاركت حركة “حماس”، لم يدع القذافي زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، مما أغضب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وأثار استياءه.
أما سوريا والعراق ولبنان فلم ترسل أحداً على رغم دعوتهم، وكانت جنوب أفريقيا من أبرز الغائبين الأفارقة.
وورد في تقرير للسفارة الإيطالية بأن القذافي كان مسروراً بالحضور الوفد الجزائري المكون من الرئيس، وعدد من الوزراء ولكنه شعر بخيبة الأمل بسبب غياب الرئيسين المصري حسني مبارك والتونسي بن علي. وأفادت السفارة المصرية لدى ليبيا بأن مبارك كان مشغولاً بمؤتمر الأمم المتحدة للسكان القادم، بينما قال آخرون إنه ببساطة لم يكن يرغب في مقابلة رئيس السودان.
وأشارت الوثيقة البريطانية إلى أن الغياب التونسي باستثناء أمناء الحزب “يعزى إلى غضب بن علي من عدم دعوة عرفات، واستيائه من موقف ليبيا الحالي تجاه منظمة التحرير الفلسطينية. وربما كان يرد بالمثل لأن القذافي لم يسافر قط إلى تونس، ولكننا سمعنا أنه أرسل 10 سيارات دفع رباعي من طراز تويوتا كهدية”.
رفض كويتي وسعودي
أراد القذافي دعوة السعودية، إلا أن محاولة مبعوثه مصطفى الخروبي للذهاب إلى الرياض باءت بالفشل بسبب الامتعاض السعودي من بعض تصريحات القذافي ومواقفه، وفقاً لبرقية السفير البريطاني لدى الكويت ويليام فوليرتون في أغسطس 1994.
واستذكر وزير الدولة الكويتي الشيخ ناصر الصباح في حديث مع السفير البريطاني موقف أمير البلاد الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح الذي التقى الخروبي ورفض الدعوة رفضاً قاطعاً، لافتاً إلى أن الخروبي ذهب إلى البحرين وقطر وعمان والإمارات، وكان يأمل طوال الوقت في أن يسمح له السعوديون بالدخول، إلا أنهم كانوا غاضبين من ليبيا، لأن القذافي قال إن “الكويت تابعة للعراق”، وإن “السعودية يجب أن “تعود إلى اليمن”.
وقال أمير الكويت لمبعوث القذافي إن “ليبيا يجب أن تتعايش مع الحقائق”، وإن عليها الامتثال لقرارات مجلس الأمن، رداً على قول الخروبي إن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والملك الأردني حسين لن يتم دعوتهما إلى القمة لأنهما وقعا مع إسرائيل.
بعد حادثة تدنيس الأعلام البريطانية والأميركية والفرنسية التقى الصحافي البريطاني في مجلة “ذا سبكتاتور” جون سيمبسون بالقذافي الذي كان محاطاً بـ”الراهبات الخضر”، حرسه الشخصي المكون من سيدات يرتدين ملابس خضراء واختيارهن مبني على معايير دقيقة، لا بد أن يزيد طول كل واحدة منهن عن خمس أقدام وثماني بوصات، وألا تكون متزوجة.
وأكد الوزير الكويتي أن مبعوث القذافي أبلغ الأمير بزيارته بغداد قبل نحو ستة أسابيع، ونقل له تأكيد صدام حسين بعدم وجود كويتيين محتجزين في العراق، وقال صدام إن وفداً من الدول العربية يضم أعضاء البرلمان الكويتي، سيمنح حق الوصول الكامل إلى السجون.
وأوضح الأمير أن الكويت تعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر الهيئة الشرعية الوحيدة لإجراء التحقيقات.
وأبدى الشيخ ناصر انطباعاته عن الخروبي الذي كان أحد رفاق القذافي في مجلس قيادة الثورة الليبية، قائلاً إنه “الرجل الوحيد في ليبيا الذي يمكنك التحدث معه” لأنه متدين وصريح ولا يميل إلى الشعارات، مشيراً إلى أن الخروبي اعتذر له أثناء توجهه إلى المطار، ولمح إلى أن سلوك القذافي أصبح خارجاً عن السيطرة، ومع ذلك لم يشك الوزير الكويتي في أن نظامه ما زال ثابتاً، في ضوء قمع الجيش قبل أربعة أسابيع لإضراب في بنغازي.
غرائب القذافي لدى الصحافة الغربية
بعد حادثة تدنيس الأعلام البريطانية والأميركية والفرنسية التقى الصحافي البريطاني في مجلة “ذا سبكتاتور” جون سيمبسون بالقذافي الذي كان محاطاً بـ”الراهبات الخضر”، حرسه الشخصي المكون من سيدات يرتدين ملابس خضراء واختيارهن مبني على معايير دقيقة، لا بد أن يزيد طول كل واحدة منهن عن خمس أقدام وثماني بوصات، وألا تكون متزوجة.
قال القذافي للصحافي البريطاني وفق العدد المنشور في 3 سبتمبر 1994 إنه يريد تحسين العلاقات مع بريطانيا والولايات المتحدة، وإنه توقف عن تسليح الجيش الجمهوري الإيرلندي، ولم يعد يؤوي الجماعات المتطرفة، لكن الزعيم الليبي، وفق الصحافي، كان متورطاً في صراعات ومشكلات متعددة، من عيدي أمين في أوغندا إلى العصابات الإسلامية في الفيليبين والانفصاليين في جنوب المحيط الهادئ الفرنسي.
وأضاف سيمبسون أن “القذافي بحلول عام 1988، أرسل خمس سفن محملة بالأسلحة والمتفجرات إلى الجيش الجمهوري الإيرلندي… ومن المؤكد أن أي جماعة “انفصالية” أو إسلاموية من المرجح أن تجتذب انتباهه، ولكنه لم يكن أصولياً قط، فقد أغلق المتاجر، التي أطلق عليها “أوكار المستغلين”، واستبدلها بمتاجر السوبرماركت الشعبية. وفي البداية كانت هذه المتاجر تبيع كل ما يمكن تخيله، من مكيفات الهواء إلى 18 نوعاً من المعكرونة، ولكن أرففها في النهاية أصبحت خاوية بسبب العقوبات”.
ونشرت صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية في عددها الصادر في 1 سبتمبر 1994 مقالاً تحت عنوان “لغز القذافي”، جاء فيه: “على مدى ربع قرن من الزمان، أثار القذافي الفزع وأمتع العالم بفلسفته الفريدة وتفسيره الشخصي للتاريخ. وفقاً له، كان شكسبير – أو الشيخ الزبير – “كاتباً مسرحياً عظيماً من أصول عربية”. وتعود تسمية أميركا إلى “أمير عكا”، الذي سلبه أميريغو فسبوتشي مجده، كما أن أسلاف الهنود الأميركيين ينحدرون في الأصل من جنوب البحر الأبيض المتوسط.
سويسرا “قريبة” من ليبيا، ولكنها “أقل تطوراً”. والهامبرغر عبارة عن مزيج من “الخنافس والفئران والضفادع التي دمرت الاتحاد السوفياتي”. والمحامون سلالة عديمة الفائدة ولابد من القضاء عليها.
وأضافت الصحيفة ساخرةً، “هذه ليست سوى بعض من لآلئ الحكمة التي كان القذافي ينقلها إلى ضيوفه، الذين كانوا يجتمعون غالباً في خيمته البدوية في الصحراء. عام 1988، في قمة عربية في الجزائر، ظهر مرتدياً قفازاً أبيض في يده اليمنى حتى يتمكن من تجنب لمس أيدي الآخرين “الملطخة بالدماء”.
رسائل القذافي من الاحتفال
أراد القذافي أن يبعث بعض الرسائل للدول العربية والغربية من خلال الاستعراض العسكري، إذ قال في كلمته الطويلة إن “العرب القريبين والبعيدين يتم استغلالهم من قبل القوى الإمبريالية. لم يكن العرض العسكري رمزياً، بل كان يهدف إلى تخويف الإمبرياليين”.
أكد الزعيم الليبي أن بلاده “مستعدة للقتال” إلا أن العرض العسكري جاء أقل من التوقعات، بخاصة من طائرات ميغ السوفياتية وميراج الفرنسية ففي يوم الاحتفال حلقت 60 مقاتلة فقط من أصل 250 مقاتلة كان من المفترض أن تحلق. وعزا الملحق العسكري الإيطالي هذا إلى ضعف التنسيق أو تصادم جوي أثناء التدريب، وأضاف أن الطائرات ربما كانت في حالة طيران، لكنها لم تكن بالتأكيد في حالة قتالية، وهي في حاجة إلى إصلاح شامل من قبل الشركات المصنعة منذ فترة طويلة.
ولم يعرض القذافي دباباته الحديثة، بل القديمة وهو ما أرجعته السفارة البريطانية إلى رغبة القذافي في عرض ألف دبابة قديمة، فالجميع يعلمون أنه يمتلك في الأقل عدداً مماثلاً من دبابات T72 الحديثة، إن لم يكن أكثر، لكن السبب الأول هو أن الدبابات الحديثة وطواقمها كان من الأفضل أن تترك في مواقعها في مثل هذا اليوم ولا تحتجز في طرابلس، والسبب الثاني هو أن القذافي أراد أن يثبت للعالم الخارجي أنه على رغم الحظر المفروض على المعدات العسكرية وقطع الغيار، فإنه لا يزال قادراً على الاحتفاظ بألف دبابة قديمة في الخدمة.
ومر ما بين 960 و1100 دبابة، معظمها من الأقدم في ليبيا وليست في حالة جيدة، وربما كان بعضها من بقايا الأيام الخوالي في تشاد. وكانت هذه الدبابات منزوعة السلاح ولم تحتوِ أي أنظمة حديثة على الإطلاق. وبعد اجتياز منصات الاستعراض، تعرضت بعض الدبابات لحوادث أثناء الخروج.
الأنديبندنت